مجزوءة السياسة، مفهوم الدولة الدولة بين الحق والعنف



مجزوءة السياسة

مفهوم الدولة

الدولة بين الحق والعنف


الإشتغلال على قولة فلسفية: “إن العلاقة بين الدولة والعنف علاقة وثيقة حميمية”
ماكس فيبر     
قم بتحليل القولة مبينا أبعادها وحدودها        


إن القول بإمكانية التعايش على أرض محددة مع مجموعة من كبيرة الأفراد يفترض وجود جهاز تنظيمي يسهر على تنظيم الإختلاف والخلاف بين الأفراد. لذلك كانت الحياة السياسية منذ اليونان تفترض وجود جهاز تنظيم سواء كانت المدينة بالمفهوم اليوناني أو الدولة بالمفهوم المعاصر. وإذا كانت الدولة تدل على كل الأجهزة والمؤسسات التي تمارس السلطة والحكم في بلد ما، فإن ممارسة السلطة والحكم للدولة يطرح مفارقة، وهي إن كانت الدولة تعتمد الحق في ممارسة السلطة والحكم، أم أنها تعتمد العنف والقوة. أكثر من ذلك، فإن الحديث عن الدولة وممارستها للسلطة يدفعنا إلى الحديث عن إمكانية المزاوجة بين الحق والعنف. من هنا نجدنا أمام جملة من الإشكالات والتساؤلات مرتبطة عامة بالمفهوم السياسة وخاصة بمفهوم الدولة وممارستها للسلطة عبر الحق والعنف من بينها: هل من مبرر لممارسة الدولة العنف ضد الفرد والمجتمع؟ هل للعنف أشكال منها ما هو شرعي ولا يتناقض مع الطابع العقلاني والقانوني؟ ومنها ما هو لا شرعي ويتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون؟



كجواب على هذا الإشكال يذهب منطوق القولة إلى التأكيد على أن العلاقة بين الدولة والعنف هي علاقة وثيقة وحميمية. بمعنى أن الدولة مرتبطة بالعنف، وارتباطها به ليس ارتباطا بسيطا وإنما ارتباطا وثيقا وحميما. حيث يمكن القول أنه لا يمكن للدولة أن تحفظ بقاءها ووجودها إلا عن طرق العنف، وإذا زال العنف زالت الدولة. بمعنى آخر أن طبيعة السلطة الممارسة من طرف الدولة تقوم على ممارسة العنف. لكن ما العنف وما الدولة؟ يحيل العنف لغة  إلى الشدة والقسوة ، وهو ضد الرفق، أما سياسيا فهو يحيل إلى استخدام القوة استخداما غير مشروع وغير مطابق للقانون، أما أخلاقيا فإنه يعني كل ضرر يلحق بشخص ما، أكان هذا الشخص قد ألحقه بنفسه، أو بغيره هو. أما الدولة فتحيل إلى مجموع الأجهزة التي تمارس السلطة والحكم في بلدا ما. واعتماد لفظتي “وثيقة” و”حميمية” يدل على ارتباط مفهوم الدولة بمفهوم العنف، ويمكن القول بأن العنف الممارس من طرف الدولة يتم عبر الأجهزة والمؤسسات التي تمارس الحكم السلطة والحكم. لكن كيف يمكن للدولة أن ترتبط بالعنف ارتباطا وثيقا وحميميا؟. في هذا الصدد يمكن استحضار تصور عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1846-1920) فقد ذهب فيبر في كتابه “رجل العلم ورجل السياسة” إلى اعتبار العنف الممارسة الطبيعية للسلطة من طرف الدولة، التي تحتكر لنفسها مشروعية تنفيذ العقوبات الجسدية على الأفراد. منطلقا من السياسة بانها إدارة التجمع السياسي، وهي ليست شيئا سوى الدولة بمفهومها المعاصر. ويعرف ماكس فيبر الدولة ليس بغايتها وإنما بالوسائل التي تستخدمها لممارسة سلطتها، والوسيلة المميزة لها وهي العنف الفزيائي، مستشهدا في ذلك بقول تروتسكي :”كل دولة تنبني على القوة” أن هذا القول يؤكده الواقع التاريخي للتجمعات السياسية القديمة التي كانت تنظر إلى العنف كوسيلة عادية للسلطة وايضا واقع الدول المعاصرة. لكن ألا يمكن أن تمارس الدولة سلطتها دون عنف؟


لأطروحة القولة أهمية من حيث إبرازها لأحد الطرق التي تعتمدها الدولة في ممارستها السياسية والتي هي العنف، من حيث ارتباط هذه المؤسسة بالعنف تاريخيا. لكن يمكن القول بأن العنف هو الوسيلة البائسة التي تلجأ إليها الدولة في ظل نفاذ الآليات الأخرى من عدالة وقانون وحق… وبالتالي يمكن التسؤال: هل لابد للدولة من العنف للإستمرار وحفظ الوجود؟. في تصور مشابه ومخالف لتصور ماكس فيبر، مشابه من حيث تأكيده أهمية العنف، ومخالف من حيث شرعية العنف. هذا التصور يمثله الفيلسوف والسياسي الإيطالي نكولا ميكيافيلي، الذي يؤكد في مؤلفه المشهور “الأمير” على أن مجال السياسة هو مجال صراع بين الأفراد والجماعات، لذلك على الحاكم، أن يستخدم كل الوسائل المتاحة لديه، الرعية وغير الشرعية (المكر، الخداع، القوة) للتغلب على خصومه وبلوغ غايته، منطلقا من مبدأ” الغاية تبرر الوسيلة”، ومن هنا نجد أن ميكيافيلي لا يرى عيبا في استخدام الدولة للعنف سواء كان مشروعا ام لا، لأن غاية الحاكم هي الحفاظ على استمراره في الحكم.
وفي تصور مخالف للتصورين تذهب الفرنسية جاكلين روس، إلى أن الدولة لا تقوم فقط على العنف، وإنما على فكرة الحق. ولذلك فروس تدافع عن دولة الحق والقانون وتنتصر للقانون واحترام الحريات واحترام الأشخاص والكرامة الإنسانية ضدا على كل أشكال العنف والقوة والتخويف. وأن سلطة دولة الحق تتخذ ثلاث ملامح: القانون والحق وفصل السلط، وهذه القوى الثلاث تجعل الأفراد يشعرون بأنهم محترمون ومحميون. بالتأكيد على أهمية فصل السلط باعتبارها الآلية التي تضمن الإحتماء الفعال في ظل سلطة دولة الحق التي تعمل بواسطة القانون والحق وتقوم على فصل السلط.   نفس الموقف تتبناه الباحثة الأمريكية المعاصرة ذات الأصل الألماني حنا أراندت (1906-1975)، ففي مؤلفها المشهور “النظام الكلياني” تقول: إن السلطة والعنف يتعارضان: فحين يحكم أحدهما حكما مطلقا، يكون الآخر غائبا، ويظهر العنف لما تكون السلطة مهددة، لكنه إن ترك على سجيته، سينتهي الأمر باختفاء السلطة.”  فالعنف إذن يتعارض مع يتعارض جوهريا مع السياسة بل يقصيها ويغيبها تماما، فهو يرتبط بأفعال غير سياسية في عمقها: كالتحايل والضبط والتخدير الإيديولوجي، رغم أن بعض المفكرين قد يقرنون السياسة بالوضع المأزوم للإنسانية ، على أن هذا الوضع ليس قدرا محتوما للإنسانية، ولا يمكن على أساسه استخلاص ماهية السياسة، وبالفعل عرفت الإنسانية أوضاعا سلمية نسبيا في عصور قديمة ، وفي عصر الثورات الليبرالية والإشتراكية، وحينئذ برزت السياسة في معناها الحقيقي، كتواصل وتحاور وتداول، وهذا هو المعنى الإيجابي للسياسة أو سلطة الدولة.


وبهذا يكون تصور أراندت وجاكلين روس مخالف لتصور كل فيبر وميكيافيلي، لتأكيدهن على إيجابية دولة الحق والقانون والتحاور وسلبية دولة التسلط والعنف.

إغلاق