المحور الأول: الرغبة والحاجة

المحور الأول: الرغبة والحاجة يدفعنا البحث الفلسفي في مفهوم الرغبة البحث في مجموعة من الإشكالات التي تثيرها الرغبة، من بينها إشكال طبيعة العلاقة القائمة بين الرغبة والحاجة، وإن كانت علاقة اتصال واستمرار أم هي علاقة انفصال وقطيعة. فما الرغبة وما الحاجة؟ وما طبيعة العلاقة القائمة بين الرغبة والحاجة؟ هل العلاقة القائمة بين الرغبة والحاجة هي علاقة اتصال واستمرارية أم هي علاقة انفصال وقطيعة؟

لتوضيح العلاقة بين الرغبة والحاجة سنشتغل على نص ميلاني كلاين

 تحليل نص ميلاني كلاين من الحاجة إلى الرغبة

معاينة النص

  • تعريف ميلاني كلاين

ميلاني كلاين (1882-1960) هي محللة نفسية نمساوية متخصص في علم نفس الطفل، من مؤلفاتها: علم نفس الطفل، الرغبة والامتنان.

  • إشكال النص:

ما العلاقة بين الرغبة والحاجة؟ وكيف تنبثق وتتولد الرغبة عن الحاجة؟ هل يمكن للحاجة أن تتحول إلى رغبة نفسية لاواعية؟ وكيف يتدخل إشباع الرغبات أو كبحها في تشكيل شخصية الفرد؟

  • أطروحة النص:

 يتضمن النص أطروحة مضمونها أن شخصية الفرد مرتبطة بالعلاقة الأولية بينه وبين ثدي أمه، وأن تلك العلاقة ليس علاقة بيولوجية فقط بل هي أيضا على نفسية لاشعورية، حيث تتحول الحاجات البيولوجية إلى رغبات نفسية لاشعورية.

  • تحليل أطروحة النص:

  • التحليل المفاهيمي للنص وللأطروحة:

الحاجة:

تفيد الحاجة في اللغة الافتقار والعوز، فالحاجة هي ما يفتقر له الإنسان ويطلبه. وغالبا ما يتم ربط الحاجة بما هو بيولوجي: الحاجة إلى الغذاء، الحاجة إلى المسكن، الحاجة إلى التنفس…

الرغبة:

تدل الرغبة على الميل والنزوع التلقائي نحو غاية معروفة أو متخيلة، وتدل في النص على تلك الرغبات النفسية اللاشعورية المرتبطة بالعلاقة الأولى بين الطفل وثدي أمه.

الدوافع التدميرية:

هي دوافع مرتبطة بطبيعة الإنسان الحيوانية، والتي تتجه نحو تدمير الذات من جهة ثانية وتدمير أشياء العالم الخارجي من جهة ثانية، وهو ما نلاحظه في سلوك الطفل كما نلاحظه في سلوك الراشد.

القلق الاضطهادي:

هو القلق الذي يسيطر على الطفل الرضيع عند تعرضه للحرمان وعدم الإشباع.

الإعلاء:

هو مفهوم ينتمي إلى حقل علم النفس، ويرادفه مفهوم التسامي. ويقصد به تحويل دافع أو طاقة ما إلى هدف أسمى

  • التحليل الحجاجي للنص

ابتدأت ميلاني كلاين نصها بالتأكيد أن علاقة الطفل بثدي أمه لا تتلخص فقط في في حاجته إلى الطعام، بل تتحدد أيضا في رغبته في التخلص من قلقه الإضطهادي   دوافعه التدميرية.

 وقد انطلقت ميلاني كلاني لتأكيد موقفها من تحليل شخصية الراشد، لتتوصل إلى أن للطفل رغبة في أم قادرة  على القيام بكل شيء، وأن تحمي ذاته من كل المعاناة والشرور، التي يكون مصدرها من داخل الذات أو من خارجها .

اعتمادا على آلية الملاحظة تؤكد ميلاني كلاين أن طريقة الإرضاع تتدخل في تحديد شخصية الطفل، وهنا تميز بين طريقتين. أما الطريقة الأولى فهي التي تكون أقل ضبطا لزمن الإرضاع وأكثر ملاءمة لحاجات الرضيع، أما الطريقة الثانية فهي التي تلتزم التزاما صارما بأوقات محددة للإرضاع. وفي كلتا الحالتين فالطفل لا يتخلص من دوافع التدميرية وقلقه الاضطهادي ومن آلامه ومعاناته.

وتؤكد ميلاني كلاين في السياق ذاته، استنادا إلى سماعها لبعض الراشدين، أن عدم احترام مساحة البكاء الفاصل بين الرغبة تحقيقها، لن يسمح للطفل أن يعبر بالبكاء عن قلقه وعن توتراته ومعاناته… وبالمقابل، إذا كان إحباط رغبة الطفل غير مبالغ فيه، فإن ذلك بإمكانه أن يساعده على التكيف السليم مع العالم الخارجي، وأن يتطور لديه مفهوم الواقع. وهنا تؤكد ميلاني كلاين أن الإحباطات التي تليها مجموعة أخرى من التحفيزات والتشجيعات، الصادرة عن الأم، تمكن الطفل من  الشعور أنه قادر على مواجهة قلقه، كما أن عدم تلبية رغباته هي التي تساهم في فتح الطريق مستقبلا للإعلاء وللأنشطة الإبداعية.

لتنتهي ميلاني كلاين في نصها هذا، إلى أن هذا الصراع بين الرغبة وإشباعها يساهم في بناء شخصية الفرد، كما يعتبر اساس العملية الإبداعية.

  • خلاصة تركيبية للموقف:

يتلخص موقف ميلاني كلاين في كون علاقة الطفل بثدي أمه لا تتحدد فقط في الحاجة إلى التغذية، بل أكثر من ذلك فهي تتحدد في تحقيق مجموعة من الرغبات وخاصة الرغبة في التخلص من القلق الاضطهادي  وفي التخلص من دوافعه التدميرية.  كما أن شخصية الفرد تتحدد من خلال الصراع بين رغباته وإشباعها في مرحلة الرضاعة، وأن الموازنة بين الإحباط والتحفيز هو أساس الإعلاء وأساس العملية الإبداعية.

  • ثالثا: مناقشة موقف ميلاني كلاين

تقتضي المناقشة الفلسفية الوقوف عند قيمة الأطروحة ، وذلك من خلال بيان أهميتها من جهة أولى وحدودها من جهة ثانية. كما تقتضي المناقشة الفلسفية فتح آفاق أخرى للتفكير في الموضوع الذي تثيره الأطروحة.

أما بخصوص أهمية الأطروحة فهي تتجلى في كشفها لطبيعة العلاقة بين الرغبات النفسية والحاجات البيولوجية، وأيضا للعلاقة بين رضاعة الطفل وشخصيته المستقبلية. كما تتجلى في أهميتها وقوتها في قوة حجاجها، حيث استندت ميلان كلاين إلى الملاحظة والاستماع، وهي تقنيات يتم اعتمادها خاصة في الدراسات النفسية والاجتماعية…

وتثمينا للأطروحة النص يمكن الانفتاح على تصور عالم النفس سيغوند فرويد، فهو الآخر يؤكد على أهمية طفولة الفرد في تحديد شخصيته، كما أنه يؤكد أن للفرد رغبات نفسية لاشعورية هي التي تتجلى على شكل أحلام وعلى شكل إبداعات.

أما بخصوص حدود الأطروحة، فتتجلى في تضخيمها ومبالغتها في تقدير العلاقة بين الرضيع وثدي أمه، فمن خلال استحضار حالة “الرضاعة الاصطناعية”،  يمكن أن نبين شخصية الفرد ليست نتيجة حتمية لعلاقته بثدي أمه خلال فترة الرضاعة، فلو كان الأمر كذلك لاستطعنا التنبؤ بالشخصية المستقبلية للرضيع دون عناء.

كما تتجلى حدود الأطروحة في عدم كشفها لطبيعة العلاقة بين الحاجة والثقافة، وهنا يمكن الانفتاح على تصور الأنثربولوجي الأمريكي رالف لينتون.

موقف رالف لينتون الرغبة والحاجة

أكد  رالف لينتون في كتابه “دراسة الإنسان”، أن الحاجات الإنسانية تصنف إلى ثلاث: الحاجات البيولوجية والتي يشترك فيها مع الحيوان كالحاجة إلى الغذاء. والحاجات الاجتماعية  التي تتحدد من خلال عيش الفرد داخل الجماعة، وقد يوجد بعضها عند الحيوان أيضا لكن في شكل بدائي.  والحاجات النفسية، وهي تلك الحاجات التي ترتبط  بما هو نفسي كالحاجة إلى السعادة. وير لينتون أن هذه الحاجات تتأثر بالثقافة التي تتدخل في شكل إشباعها وطرق صرفها. إضافة إلى ذلك، فرالف لينتون  يؤكد ان رغبات الإنسان لا تبقى حبيسة منطق الحاجة، وهو ما وضحه من خلال مثال اللباس. فإذا كان اللباس في الأصل تعبيرا عن حاجة بيولوجيا وهي الحاجة إلى حفظ البقاء من خلال الوقاية من البرد، فإن الثقافة قد حولت تلك الحاجة إلى رغبات، مثل: الحشمة، كبت الشهوات الجنسية، الإثارة، تحقيق الميولات الجمالية أو إثارة إعجاب الزملاء….

خلاصة تركيبية للمحور

من خلال ما سبق، يمكن القول أن هناك ارتباط بين رغبات الإنسان وحاجاته، وأن هناك تداخل بينهما. كما أن الحاجة قد تتحول إلى رغبة، بفعل التربية والتنشئة، وبفعل تدخل الثقافة ما تشمله من معتقدات وعدادات وتقاليد… وأن الرغبة قد تتخذ شكلا واعي وشعوري وقد تتخد شكالا لا واع ولا شعوري. وهذا المعطى الأخير هو الذي يدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة الرغبة وعن علاقتها بكل من الوعي والإرادة. فهي الرغبة هي رغبة واعية أساسها الإرادة، أم أنه تبقى رغبة لاوعية  وتبقى خارج إرادة الإنسان؟

شاهد أيضا:

إغلاق