دراسة نقدية في المجموعة القصصية “القرية المهجورة” للكاتب الواعد محمد الورداشي   

دراسة نقدية في المجموعة القصصية “القرية المهجورة” للكاتب الواعد محمد الورداشي   
  • دراسة نقدية في المجموعة القصصية “القرية المهجورة” للكاتب الواعد محمد الورداشي:
  • إعداد: جواد دولهيمة

على سبيل التقديم :

تعتبر القصة القصيرة، جنسا أدبيا فريدا، يجعلك تغوص في الأشياء الصغيرة لتظهر كبرها، فأي دقة أوتحديد يعقبها تحليل عميق لقضايا الانسان، ومعالجة ناقدة للمجتمع والمحيط، إن القصة القصيرة هي ذلك النهر الذي تتجدد مياهه كل يوم، فيكون بذلك على المبدع والناقد أن يطورا أدواتهما لمعالجة وتحليل ونقد القصة من جهة، ثم بنائها وتصورها وسبر أغوارها من جهة ثانية، فالأولى عمل الناقد والثانية طريق المبدع.
إن موضوعات القصة ليست دائما موضوعا فكريا يظل يشغل المبدع، ولا يتخلص منه حتى وإن أفرغه في قالب القصة، في نظرنا، إنما هي لحظة وجيزة بين زمن الوجود وزمن الفعل، إنها تلك الآلام التي لا يمكن أن تظل في الذهن، وتلك الأفكار التي يجب التخلص منها بسرعة، كأنها ورم خبيث يجب بثره من عالم اللحم والدماء نحو عالم المداد والورق.
ومن هذا البعد الذي يعتصر الألم الإنساني بنوعيه، فرديا؛ زمن الكتابة وما قبله، وجمعيا؛ ما بعد الكتابة، يُطل علينا المبدع والكاتب محمد الورداشي بمجموعة قصصية جديدة موسومة ب”القرية المهجورة” بعد مجموعته الأولى “حينما يتنكر الوطن لبنيه” والتي كان لي الشرف لتقديم دراسة نقدية فيها، أعود مرة أخرى للوقوف عند جمالية الأسلوب ودقة اللغة التي عودنا عليها الكاتب في عمله الجديد.
وسنخصص هذه الورقة للحديث عن العناصر السردية، والجمالية، كما سنصدر تحليلنا بالحديث عن بعض العتبات، ونختم هذه الورقة بمقارنة بين العملين القصصين، على مستوى المواضيع، والقضايا المثارة فيهما. 

1.قراءة في العتبات:

 – العنوان: تركيبيا : مركب وصفي يتكون من موصوف (القرية) وصفة (المهجورة)، ويمكن اعتباره مركبا إسناديا بتقدير الخبر. ونلمح، هنا، في اختيار المركب الوصفي للعنونة رغبة أكيدة للكاتب في تشخيص الأحداث وربطها وجعلها في متناول التحليل والمعالجة.
دلاليا: يثير العنوان مجموعة من المعاني والدلالات، فالقرية المهجورة، هي القرية الخاوية من أهلها، غير أن اتساع الدلالات يكمن في بحثنا عن سبب هذا الهجران وعوامله، فالقرى لا تهجر على حين غرة. كما يحمل العنوان طابع النسيان، والاقصاء والتهميش، والدونية.
-وجه الغلاف: يتضمن لوحة فنية، توحي بمناخ جاف وجو حار، تتخللها صور مجموعة من الناس يتحاربون مع بعضهم، ورَفَاَ تعلوه ذراع أدمية، وفي أحد رفوفه وشاح أحمر. يمكن أن نستشف من هذه الملاحظات مكان وقوع الاحداث وهو ما صرح به العنوان بداية، واللوحة الفنية ثانيا، أما الناس المتصارعون فهذه دلالة على طبيعة الاحداث، وكذلك الظروف التي أفضت إلى هجران القرية، فيما يمكن أن يرتبط الوشاح الأحمر الموجود بالرف بالبعد الثقافي للمنطقة، أو يكون عماد بناء قصة من القصص الموجودة بين الدفتين.
-ظهر الغلاف: يتضمن السيرة الذاتية للكاتب محمد الورداشي، وملمحا سرديا ووصفيا من أحداث المجموعة القصصية، ودار النشر، ثم العنوان مكتوبا بطريقة مظللة.

2. الوظائف السردية: 

لا يمكن للنص السردي أن يكون سرديا، حتى يتأسس على مجموعة من الخصائص الأسلوبية والبنائية، أما الإجادة في ذلك فلكل كاتب نمطه الخاص وأسلوبه الشاد، وسنقف في هذه النقطة عند مجموعة من العناصر السردية واللغوية، كالسرد والوصف، والأساليب الموظفة، وكذلك مستويات الخطاب الدلالية والتداولية.
السرد: يحضر السرد في العمل القصصي بكل أدواره ووظائفه التي يتغياها الكاتب، كما نجد حضورا كبيرا لتقنيات السرد، كالحذف والاسترجاع، والاستشراف.
-الوظيفة السردية: وهي التي يظهر فيها السارد وفعل الحكي الذي يمارسه، فهو عنصر مركزي لا بد منه لتنامي الأحداث، والجميل في هذه النصوص هو أن السارد دائما موجود كشخصية رئيسية (قصة القرية دموع السماء مثلا) حيث يقول: “فمنذ فتحنا أعيننا على القرية..” ويظهرا صريحا في رأيه الذي قدمه أمام الجماعة :” يجب أن اتحدث هنا والآن..”.
الوظيفة التوجيهية: يحرص الكاتب على تنظيم وتدبير محكياته، حيث يقدم ويؤخر، ويخرج بصوته أحيانا معلقا، والامثلة على ذلك كثيرة، حيث يقول “ونحن نفر من الموت الرتيب نحو الموت السريع”. ونجده في قصة الثائر في قوله :” تحكي الجدة يقول عمر..”، كما نلمسه في قصة حب عابر وذلك في لحظة تقديم الشخصيات.
الوظيفة التواصلية: ويظهر في المساعدة التي يقدمها السارد في إطار تعليقاته التي تجيب على بعض الأسئلة التي تظل عالقة في ذهن القارئ، وهذا ما يجعلها تختلف عن وظيفة التوجيه، التي يكون فيها السارد مخبرا ولا يهدف بريط جسور التواصل مع القراء، أكثر مما يجعله جزءا من مسرود القصة.

3. السرد وتقنياته: 

تقنية الحذف : إن الحذف اختيار يلجأ يخول للكاتب السرد واختزال ماضي الشخصيات في متتاليات قصصية ذات مفاصل معلومة واحيانا موصوفة، وتسريع الحكي بالقفز عن بعض المراحل العمري أو الاحداث المؤثرة في حياة الشخصيات، وهذا واقع مفروضا في التقليد القصصي لجأ إليه الورداشي كغيره من الكتاب، ونكاد نلمسه في كل القصص داخل عمله.
تقنية الاسترجاع: الزمن ضربان، زمن أولي هو الحاضر، وزمن نسبي أو متفرع عن الأولي وهو الماضي والمستقبل، فالحاضر تمثله لحظة الكتابة في التعليقات، ثم يأخذ خصوصيته بالنظر للشخصيات التي يتناولها السارد، وقد نجح هذا الأخير في جذب الماضي نحو الحاضر بكل حميمية وبكل الأحاسيس التي تستأثر بروح الشخصية أنذاك، ونقدم نموذجا على ذلك قصة الثائر عمر.
تقنية الاسترجاع: 
يتميز النص السردي لقدرته على ابتكار أسالب عدة لاستخدام المستقبل واستحضاره، والاستشراف تقنية سردية بخبر القارئ بأحداث معينة، يظل ينتظر تحقيقها، أو إلغاءها في مستقبل الحكي. ونجد أمثلة كثيرة لهذه التقنية في القصة الاولي، التي يخبر فيها الكاتب غير ما مرة، عن النتيجة التي سيؤول إليها سكان القرية وهم يقصدون بيت القائد.
زيادة على كل الوظائف والتقنيات، فقد وظف الكاتب الورداشي مجموعة من الأساليب التي يقوم عليها فعل الحكي، كالوصف، في رصد ورسم ملامح الشخصيات والأمكنة والأشياء، والحوار بنوعيه المباشر وغير المباشر، من أجل إضفاء خاصية الواقعية على القصص، فضلا عن الاقتباس والتضمين (التناص)، الذي يحضر بقوة في لحظات الدعاء مثلا.

4. مقارنة مع المجموعة القصصية الأولى: “حينما يتنكر الوطن لبنيه”:

ظل الكاتب وفيا للمنهج الواقعي، والبعد الاجتماعي الذي يأخذ اللحظات والوقائع موضوعا له، كما أن طبيعة المواضيع (الغنى والفقر، الجهل والمعرفة، الحب والكره، المحاولة والفشل السلم والحرب…) لم تتغير من حيث الأهداف وإن لمسنا تغيرا نوعيا في المواضيع، المتناولة، فقاطرات الكتاب تستمر في البحث عن عروق الثورة وجذورها في الإنسان الذي بالغ في الذل، حتى وإن قادته ثورته إلى الموت، الذي مكن أن يكون خلاصا أبديا من الهشاشة والظلم والتسلط.

إغلاق