درس الفلسفة جاك موقليوني – ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

 عنوان المقال:   درس الفلسفة

كتابة:  جاك موقليوني Jacques MUGLIONI*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمــــــــي

”   إنّ المدرسة هي الفضاء الذي نتعلّم فيه ما نجهله كي نقدر، في الوقت المناسب ،على الاستغناء عن المعلّمين ( جاك موقليوني)

   علينا أن نقول بأيّ معنى لا يتشابه درس الفلسفة مع أيّ درس آخر؛ لكن، يجب أوّلا أن يُفهم من حيث هو درس، بنفس الطريقة التي نفهم بها درس  رياضة الجمباز، ودرس رسم أو إنشاد. إنّه الفعل ذاته، غير قابل للقسمة، فعل التعليم أو التعلّم، سواء قمنا بدرس أمام تلاميذ، أو استمعنا لدرس نتابعه، ونفهمه ونحفظه. لكن، فيما يتعلّق بالجمباز، بالرسم أو الإنشاد، فيتمثّل كل درس  بوضوح في التمرين ذاته الذي يقوم به التلميذ، والذي يحدّده المعلّم أولا، و يفحصه فيما بعد حتى يقيّم الإنجاز. يُطالِب المعلّم ويُوجّه، ولكن التلميذ مُلْزَم بكامل العمل. يقينا، يمكن للمعلّم أن يقضّي أمسيات في القراءة والتأمّل، ولكنّه لا يذهب إلى المدرسة ليعمل هو ذاته. ثمّ إنّنا محمولون اليوم على اعتبار أنّ هذا الضرب من الكسل لا يستحقّ لا أجرا محترما ولا تقديرا. فالمعلّم يرافق تلاميذه ليجعلهم يعملون ولكي يقدّر قيمة عملهم.

     ألا يتعلّق الأمر، أيضا، بعمل لا ينتج شيئا، له هدف وحيد هو أن يهيئ التلاميذ للتعلّم: ليست الأعمال البارزة التي لا يمكن تقديرها بثمن، سوى وسائل لخدمة هذا الهدف. غير أنّ التمرين الفعلي يظلّ الاختبار الوحيد. يسعى الإنشاد والرسم، والتمرين الفيزيائي إلى إنجاز يُمَكّن من إرضاء جمهور متبصّر. بيد أن هذا العمل، الذي تُطرح نتيجته للسمع أو للنظر، هو في الواقع عمل في كلّيته داخلي. وهو لهذا بالذات يصلح كدرس، فالأساسي هو الانتصار على كبرياء الكهل، الذي غالبا ما يكون مُهْلِكا للشباب، الذي يذهب إلى الاعتقاد في أنّه في غنى عن تلقّي درس. بيد أن التلميذ الحقيقيّ لا ينغلق على ذاته، حَذَرًا. إنّه يتغيّر بالتعلّم، وبتطوّره بالذات. يغيّر الدرس الحقيقيّ الأفكار بالنسبة إلى كلّ ما يلحقه من الدراسات والأعمال، وحتّى بالنسبة إلى الحياة بأكملها. وهو ما تعنيه تحديدا كلمة تعلّم. يمكن أن يكون لنا دماغا محشوّا معارف – وهذا الجمع ( أي معارف) بالذات يبطل معناها كمعارف- ، ولا نكون على أيّ وجه من الوجوه متعلّمين. فنحن نفهم أنّ غاية الدراسة هي على الأقلّ تحصيل شيء ما ينقصنا، ولا نملكه بعدُ، وأن نصير فعلا ما نملكه من القدرة على أن نكونه. أن نقدّم درسا إذن، ليس معناه أن نعطي، و ننقل ، أو نقدمَ عطية أو هبة. بل هو بالأحرى أن نطلب بل وحتّى، إن لزم الأمر، أن نطالب بإلحاح. من يعطي أكثر، المعلّم أم التلميذ؟ لنقل إنّ فضيلة المعلّم ليس الإسراف بل البخل. فالدرس هو فعل تجميع وجَنْيٌ واختيار. إنّ وابلا من المعلومات والوثائق لا يصنع درسا وبالخصوص لا يصل إلى قيمة درس صامت تقريبا، إلى خشوع حول كلمة تجعلنا نفكّر. إنّ فعل التعليم هو اليوم معتّم بسبب ترف التقنيات المخصّصة للتواصل. وحتى لا نقول شيئا عن الصّور، فنحن لا نشكّ إطلاقا في أن الكلمات وبضرب من السحر، تنقل الأفكار، وأنّ التعليم يتراءى لنا إفراغا ومَلْئًا. علينا أن نعرف مع ذلك، أنّ الأصوات لا تنقل سوى ذاتها. فحينما لا نحذق لغة ، وأقول حتى لغتنا الخاصّة، فإنّ الكلمات ليست سوى ضجيجا. وحينما نظلّ غرباء عن المسائل المعالجة، لنقص في التعليم والثقافة، كانت الكلمات على الأقلّ ألغازا. يجب أن يقع تقبّل الكلمات حقّا بوصفها علامات إذا ما أردنا منها أن تعلّمنا بالمعنى الحقيقي للكلمة. لكنها لا تنقل بالمرّة ما تثيره من معنى، وما تفصح عنه أو ما تطالب به.  فإذا لم يكن المعنى فينا أوّلا على نحو ما، وإذا لم يسبق إذن الخطاب ، ظلّ هذا الأخير حرفا ميتا، كما نقول ذلك بوضوح. إنّ المعلّم الحقّ هو دوما داخلي.غير أن بيداغُوجِيُّونا يتحفّظون عن قراءة أفلاطون و القديس أغسطينوس : لا يودّون ركوب خطر فقدان عملهم! قد نتقبّل كدرس عارض في حياتنا، حدثا تاريخيا. ألا يجب أن يكون لنا أيضا قدر كبير من الحريّة لتغيير أفكارنا، أو بالأحرى لاستبعاد الآراء والعادات التي تمنع عن التفكير؟. قد يكون من السذاجة الاعتقاد أن النقاش مثلا يمكن أن يلتزم بضوابط الحقيقيّ. إذ أنّه ينقاد فحسب للاستخدام الشائع، وأنّه من البيّن جدّا أنّ شرف الحقيقيّ ليس في هذا الاستخدام. لقد عبّر موليير عن هذا جيّدا. والسؤال هو في معرفة كيف نستمرّ في الانشغال النزيه بالحقيقيّ وعدم الخضوع مع ذلك لكراهية البشر. إنّ النقاش هو بالفعل تكرار طقوسي للمسائل التي وقع حلّها. إنّه المجال الذي تعود فيه بإصرار، الآراء التي وقع دحضها، أو التي بالأحرى، تطهّرنا منها. وإذا ما طرحنا جانبا الفضيلة الاجتماعية للكرم، والتي بالتأكيد يجب تقديرها، فليست المناقشة شيئا آخر غير انتقام الأفكار المسبقة والأهواء الحزينة التي ترعاها؛ انتقاما من البحث الحرّ والنزيه، وانتقاما من المدرسة. ليس الفراغ الذي يجعل الفكر مُهَيَّئا بل الازدحام. لأجل هذا كانت الفضيلة الأولى للدرس ومنذ بدايته هي استبعاد الآراء الجاهزة والأفكار المسبقة التي تحتلّ الفكر، وتمنعه إذن عن التفكير بذاته. ولا يمكننا أوّلا أن نستمع لدرس إلاّ إذا شهد انضباط الجسد للذات في مرحلة أولى، انضباطَ انتظارٍ بدونه يُعرّض الدرس لخطر الرفض مطلقا. فمن كان غير قادر على الاستماع، أي أن يلتزم الصمت، وأن يُسْكِت آراءه و أمزجته، فلن يفهم ولن يتعلّم شيئا. في هذا بالذات يكون الدرس نقيض النقاش أو المحادثة التي تكرّس المجاملة الاجتماعية. من النّادر قبول التعلّم في الشارع، في صالون أو على الطاولة. من هنا كان الانشغال بمقاطعة الكلام. نحن نستهجن بوجه عام أن نتعلّم في سنّ النضج . فنحن نعلم أنّ بلوغ هذا السنّ يعني غالبا أن لا حاجة للتعلّم. إذ هل من ضرورة ربّما للتذكير بذلك؟ فليست مجرّد معلومات منقولة عبر شبكة، دروسا. علينا أن  نذكّر بذلك بصرامة: يحتاج الدرس إلى مأوى. فلن يكون الدرس شيئا يذكر حينما يصطدم بظروف مناخية سيئة تؤثّر على التلاميذ كما المعلّم. ولكن إذا ما كانت السلطات المسئولة مصرّة مع ذلك على ترك المعلمين يدرّسون والتلاميذ يتعلّمون، فذاك هو السؤال اليوم. إنّ الصمت في القسم هو في الآن نفسه شرط ونتيجة للانتباه، وهو يرمز إلى مسكن الفكر ويفصح عن قيمة الكلام. فلا كلام المعلّم ولا التلميذ بقادر على خرق هذا الصمت الذي نعود إليه دوما، هذا الصمت الذي يسبق ويتبع الكلام، هذا الصمت الذي يحمل الكلام، إذ هو حيّز المعنى. ولن نستوفي القول أبدا فيما يجعل القسم قسما، لا بوصفه مجموعا غير واضح، بل عددا منته من التلاميذ يمكن أن نميّزه، بحركية الجسم واستقراره والتحكّم في الحركة. توجد شروط فيزيائية دونها يضيع الكلام. نحن نفهم أنّ الكلام لا يتيه في الصمت الذي يخترقه دون أن يحطّمه، بل يتيه في الضجيج والحركة. و يمكن أن نتحدّث بالتأكيد ونحن نمشي. لكن حينئذ  تكون الخطوة هي إيقاع التفكير الذي يستمرّ مؤتمنا الصمت على الكلام. من منّا لم يعرف هذا الزمن الخارج عن الزمن، وهذه السعادة في التفكير دون أن نقدّم الحساب لمن حولنا، ولا يعرف ما هو القسم ولا ماذا يعني التعليم. إنّ المحاضرة، وهو ما يعني تعليم المعلّم ، ليس قول خطيب. علينا إعادة قراءة أفلاطون. يريد الخطيب أن نؤيّده لا أن نفهمه. إنّه يراهن على ضعف المستمع، ورغباته وتخوّفاته وأهواءه. إنّه يريد جمهورا متحرّرا من كلّ جهد، إلاّ من كلّ إلزام. تعبّر الكلمات عن ذلك كفاية: المرور من الدغمائية إلى البيداغوجيا، هو استبدال الشعب بالطفل، وليس تغيير الفكر.  وعلى العكس، يجب على المعلّم أن يخيّب أمل كلّ الانتظارات. بل يجب على المستمع في البدايات أن يشعر باليأس: يكتشف، فعلا أنّه لا يمكنه أن يأمل إلاّ من انتباهه. ذاك هو السرّ الكبير للتعليم، والذي يعدّ المستمع الأكثر صرامة، في حين أن البيداغوجيا الصاخبة مصيرها اللامبالاة والملل. لن يكون ثمّة اهتمام إذا لم يكن محفّزه الوحيد ودون مساعد، هو المحتوى، إذا لم يخلقه التعليم ذاته. ذلك أن الاهتمام لا يسبق التعليم بل ينتج عنه. فلن يصلَ أكثرُ الإخراج صراحةً إلى قيمةِ بيتِ شعرٍ نقوله كما يجب. وسينتهي المستمع دوما إلى كره منافعه العرضية والخفيّة أو كما نقول عادة دوافعه. وعلى سبيل المثال أيضا قد تَصْرِفُنَا ضرورةُ ومُقْتَضَى فكرةٍ عظيمةٍ مدوّنةٌ على سبورةٍ سوداءَ، عن كل الأنماط.

  وفي المقابل، ومهما كانت دقّة الحيل التي اختبرناها في التربّصات، فليس للمدح فقط من نتيجة أخرى، بل أيضا من غاية أخرى سوى تدمير التعليم. فهذه الابتكارات أو بالأحرى هذه المؤامرات التي حينما تجد دعم السلطة السياسية، هي بمثل انقلاب على المدرسة. إنّها تحرّض في المدرسة على كراهية المدرسة. ففيم ، يمكن مثلا أن تعني البرهنة على مثلث متساوي السّاقين( وليعذرني الرياضيون لهذا المثال الذي عنف عليه الزمن) التلميذ قبل أن يحضر في ذهنه؟ إلاّ إذا كان طاليس بعينه، لابد أن يختار لنفسه أن يكون تلميذا أوّلا. ثمّ هل من الضروري أن نذكّر بأن  طاليس كان تلميذ نفسه؟ ! هنا فحسب تكمن حقيقة التعلّم: تعلّم التفكير بأنفسنا. ذلك أنّ البرهنة ليست لا في الكلمات ولا في الشكل المرسوم على الرمل أو السّبورة. فالمعلّم الحقّ بالمناسبة لا يقدّم نفسه بوصفه مالكا للمعرفة. لقد كنّا نذهب وفي وقت غير بعيد، إلى حدّ مقارنته بالرأسمالي، الممسك السّاخر المحتكر والذي يصرف خيراته ببخل! بل هو على العكس متواضع وفقير، دائم البحث كمن لا يعرف بعدُ حقّا. معلّم جاهل؟ ومن غير شكّ يوجد فيه دوما شيء من سقراط: يتساءل، مقدّما مثالا لليقظة، ” هذه العبادة الطبيعية التي بواسطتها يُنيرنا العقل “.حقيقيّ أن بيداغُوجيُّونَا المُجَوَّزِ لهم والمُؤَجَّرين لا يقرؤون بالمرّة لمالبرانش!   

    لغياب التساؤل أوّلا،عن ذاك الذي يتظاهر بكونه معلّما، ويحتلّ كرسيّه ليقول خطابا ليس بحقّ خطابه. نجانب الصواب بالحديث عن الدرس محاضرةً، إذ ليس المعلّم واحدا بالنسبة إلى نفسه. إنّه يسرد ما يعتقد معرفته، لكنه ليس عملا للفكر. فهو بذاته لا يتعلّم، وبالتالي فهو لا يعلّم. وهو لا يُساءل نفسه، ومن ثمّ فإنّ الأسئلة التي يطرحها على التلاميذ لا تجد طريقها إلى الفكر.

       لأجل هذا إذن، فإنّ الإنسان الذي يزعم أنّه أعلم الناس لا يمكن أن يكون قادرا على التعليم. ليس لأنّه كثير العلم – فنحن لن نستوفي العلم مهما علمنا- بل لظنّه أنّه من السذاجة بعدُ تعلّم ما يَفترض العلم به نهائيا. إنّ هذا الرفض لزيادة التعلّم الذاتي، وإعادة سلوك الطريق بصبر، هو ما يؤدّي إلى العجز عن التعليم. إذ لن ننحني أبدا لتعليم الآخرين إذا كنّا واثقين جدّا من كوننا نعرف بعدُ، وأنّنا تخلّصنا من الجهل والخطأ نهائيا. وإذا كان المعلّم لا يذهب إلى المدرسة من أجل نفسه أوّلا، فإنّ التلاميذ لا يسمعونه ويصيبهم الملل. فهو يقذف بنفسه في أسلوب تفسيري وبالتالي استبطاني ، يجعل التلميذ لا مبالٍ بل وفي حالة إغماء. فحينما يفسر ما عثر عليه بنفسه، يمكن للمعلّم أن يسمع نفسه ويعجب بنفسه، غير أن التلاميذ يفكّرون في شيء آخر، أو منشغلون عنه. إنّ ما يشدّ الانتباه، في درس فلسفة أكثر من أيّ شيء آخر، هو المسار الذي تمّ اتخاذه، وتقدّمُ الفكرِ على ذاته، تقدّم واعٍ بذاته، إذ أنّه لا يتجنّب لحظة الجهل والخطأ. حينها يحصل للتلميذ الشعورَ بأنّه لا يتّبع تفكير غيره بشغفٍ، وأنّه تخلص من ثقل فكرة فُكّر فيها، بل إنّه يصنع فكره الخاص ذاتيا؛ والتفكير حقّا بذاته، لا التفكير بفعل إكراهِ سلطةٍ وعلى الحساب. لن ننال هذا الحظّ حينما نستعجل استهلاكَ ثمرةِ علمٍ ناضجٍ. فليس من التعلّم في شيء، الاستيلاء على ما أجهد الآخرون أنفسهم في تنضيجه، إنّما هو القدرة على الانتظار وتنضيج ذواتنا. غير أنّ إنسان الحداثة لا يقبل أيّ شكل من أشكال العَوَزِ. فالمعرفة بالنسبة إليه تُستهلك، أو يُحتفظُ بها أيضا حتّى تستهلك في وقت محدّد: معرفة مجمّدة savoir surgelé ، جاهزة للتسخين، لاستهلاك عادي. فما من حاجة للتحصيل، أي الاختيار والإعداد ومراقبة الطبخ: فالتقنيات الجديدة تضع المعارف في متناولنا مباشرة، كما لو كان هناك متجرا كبيرا للمعارف، معارف جامدة، وجودها لا يحتاج إلينا ويمكن أن نستخدمها عند الطلب. لكن يوجد من بين المهارات الحديثة جدّا، واحدة هي ضمنية ولا نتجّرأ على التصريح بها، هي الاقتصاد،ذاك المدمّر للمدرسة. فالمعرفة لا تُنشر ولا تُوزّع. لكلّ فكرٍ أن يصنعها لنفسه، وأن يحصّل قبل كلّ شيء التحكّم في مادّة التخصّص، وهو ما يسمّى تعلّما. إضافة إلى أنه لا يجب على التلميذ أن يظل مكتوف اليدين كما لو كان يشاهد عرضا لا يشارك فيه. فتدوين ملاحظات هو بالنسبة إلى التلميذ الدليلُ الوحيد على انتباهه. فدرس نُمْلِيه أفضل من درس نتفرّج عليه، وينتهي ليلا كما يحدث في السينما. لقد تابعت طيلة سنتين درسا في الرياضيات كان يُمْلَى علينا، وكان أنشطَ تعليمٍ عرفته. فقد بدا لنا المدرس الشاب ، النحيف وذي البذلة السوداء، والمبرّز حديثا والذي لم يتابع من حسن حظّه أيّ تربّص بيداغوجي، أنّه يرتجل كلّ شيء. وتحتفظ السبورة بآثار الأشكال والقضايا. لكن الكلام يُكَوِّنُ ، دون أن نشعر بذلك، تحريرا مكتملا. لقد كان قريبا جدّا من الفكرة الذي طالما توقّعناها، ودائما دون أن نُدْعَى قصدا إليها. هنا فهمت بشكل أفضل ديكارت، الذي عرّفنا به أستاذنا في الفلسفة السنة التالية :” هذه السلاسل الطويلة من البراهين، البسيطة كليا والسهلة، والتي ألف الهندسيون استخدامها في برهناتهم الصعبة”. يتطلب تدريس الرياضيات هذا الضمان الذي يمنع التلاميذ الماهرين من هضم جانب التلاميذ المجتهدين. ذلك أنّنا نعرف الدرس حينما ينتهي. يكفي أن نعيد قراءته قبل حصة الدرس وإنجاز التمارين المؤشّر عليها. كل ما علينا معرفته بعد ذلك أعمال مدوّنة في الكراس بدقّة. إذن، للتلميذ الأكثر بطئا بل الأكثر عنادا، ما يستعيد به مكاسبه. وهو مالا يتوفّر اليوم في أغلب الموادّ الدراسية.

   لقد أدركنا أنّ ما ندوّنه من ملاحظات، أو بالأحرى هذا التحرير المكتمل والذي عمليا، يقع إملاءه، هو ملاحظاتنا نحن. لا شيء يشبه هذه الدروس المنسوخة التي تُعفي من مراودة قدرتنا على المتابعة والتعرّفٍ على كلام المعلّم. إنّه كما لو أنّنا نحن من دوّن ملاحظات وباختيار شخصي، وهو ما لا يمنعنا عن الإجابة عن الأسئلة التي يؤدّي إليها تقدّم الدرس ذاته، وعن البحث وعن العثور عما نبحث عنه. لكن ما نكتبه ملك لنا بالذات. لقد كان الدرس مكوَّنًا، في تحريره حتّى ، مكوّنا ممّا كنا قادرين على التفكير فيه مباشرة بأنفسنا.      

   قد يقال بأنّ الخمس والأربعون طفلا الذين كنا في القسم، والذين يدرسون جميعا اللاتينية واليونانية، وكثير منهم قد لحق بالمدارس العظمى، يشكّل جمهورا مدرسيا جدّ مختلف عمّا نشاهده اليوم. خلافا لخطاب الكراهية ، أجيب بأنّ التخلّى عن المتطلّبات ( الواجبات) المدرسية بامتياز، بتعلّة مجاراة مستوى الجمهور، هو بمثابة  اقتراف جرم؛ وأنّه بقدر ما يُحرم التلاميذ، وجب أن يكون المنهج دقيقا، صارما بالمعنى الحقيقيّ.

    إنّ كراهية الماضي تُعمي أتباعَ الحداثة إلى هذا الحدّ الذي يصلون فيه إلى الامتناع عن الاحتفاء بالقناعة الراسخة التي كانت من قبل مَجْدًا واليوم كثيرا ما يشجبها معلّمونا. أجازف بأن أضيف أنّ احتفاظنا بقوّة بالبحوث الفكرية للتلاميذ التي قد يكون لها مصادر أخرى، ننتهي إلى تبرير التخلّي عن كلّ تعليم واقعي. لكن ما يؤدّي إلى تضخّم تلاميذ الباكالوريا هو إهمال تدريجيّ للمتطلبات( أو الواجبات) المدرسية بالذات، وليس العكس، مثلما نتظاهر بالإيمان به كي نحتجّ بشكل أفضل بأنه قد مضى زمن كنا نتعامل فيه مع التعليم، مع كلّ ما نشاء من العيوب، بوصفه أمرا جديّا. وإلاّ فكيف نفهم إمكان أن تتأثّر المدرسة الابتدائية ؟ هل نكون قد نسينا أنّها، ومنذ قرن كانت تستقبل بعدُ كلّ الأطفال، الذين كان أكثرهم على الأقلّ فقيرا معدوما أكثر من اليوم؟

 ولكي نستعيد مثالنا، من أين يأتي كلّ هذا الصخب الذي نحدثه بشأن تدوين الملاحظات؟ لقد اكتشف علماء نفس عباقرة أنّه لا يمكننا أن نكتب ونسمع في نفس الوقت، كما لو قلنا بأنّ الموسيقيَّ لا يمكن له أن في الآن نفسه متابعة التوزيع  وقيادة الجوقة. إنّ الاختلاف الوحيد هو أنّ عمل الموسيقيّ إنجاز في كليته، عليه أن ينتهي منه حتّى يَحفظ عن ظهر قلب تَوزيعه. ولكن الفكر يحتاج أولا إلى نقطة ارتكاز وقد يتيه لو ظلّ معلّقا فحسب بكلمات سرعان ما تتلاشى. إنّ الملاحظات عن الدرس هي هذا الخطّ الذي يحفظ الأساسيّ من الكلام. يقينا، الكلام أوّلٌ ويسبق الكتابة. لكن ما يوليه التلميذ له من أهمية تخلق لديه إلزام الاحتفاظ بأثر منه، كي يستطيع فيما بعد، وفي الصمت، العثور من جديد على الفكرة. لقد مرت أكثر من ألفي سنة ونحن ننشر ملاحظات عن دروس، تظهر من بينها الأعمال الفلسفية الكبرى. لنتدرّب على أخذ الملاحظات بالانتباه المشدود إلى الكلام والرغبة في حفظِ ، وإنقاذِ المعنى، وأحيانا حتى الصيغة التي تعبّر عن المعنى. يَفترض هذا بالتأكيد أن نعرف القراءة والكتابة، وربّما أيضا أن يطلّع الأستاذ على الكراسات. غير أنّ الدرس يعني أولا قراءة. هذا التمرين يكوّن الفكر، ومن دون شكّ شرط أن لا يغرينا تكديس المعلومات: ليس أخذ ملاحظات، تخزينها، بل الاختيار، إنّه الفهم بعدُ وحفظ الدرس. يرتقي بنا أخذ الملاحظات أو تدوينها، إذا ما تعلّق الأمر فعلا بدرس، إلى أعلى درجات فنّ الاستماع.

   إنّ درس الفلسفة هو أوّلا درس كسائر الدروس.غير أنّه يحتوي على مقتضى غير حاضر، على الأقلّ على نحو مماثل، في الموادّ الأخرى. كلّ درس في الفلسفة يُلْزِم كلّ الفلسفة. ويجب على مسار الفكرة الذي هو سمته المميِّزة، أن يكون حاضرا في الأذهان، مهما كان الموضوع.  فإذا ما استبعدنا النقاش السفسطائي الذي فائدته الرياضية تُغري أكثر من أن تُثقف، فينبغي ألا يكون هناك جدوى من التمييز بين، من جهة الدرس الذي يتناول موضوعا، ومن جهة أخرى بين السؤال والحوار. وبالفعل، فليس السؤال لحظة خاصّة للإعلام الفلسفي، ربّما مثل تمرين مدرسي يراقب. إنّه الدرس بأكمله، ومنذ بدايته، الذي يقوده الأسلوب ألتساؤلي. ولا يهمّ كثيرا  بالنسبة إلى سلوك التفكير أن يكون المعلّم أو التلميذ هو الذي يجيب. لكنه من المستحسن أن يحتفظ المعلّم بجوابه أحيانا، من جهة، حتّى يكون للتلميذ الوقت للتأمل، ومن جهة أخرى حتّى لا يخاطر بالجواب فيساهم إذن في بناء الخطاب، حتّى لو كان ذلك لإدخال منعطف أو اختصار لم يكن متوقّعا. ذلك أنّ الدرس يُبنى بقدْرٍ و تزداد صلابته بالصعوبات، أي بالفرص التي تَعْرُض والتي لا نتوقّعها دائما. وبإتباعه الدرس المحاضرة، إذا ما كان المعلم على الأقلّ معلّما بحقّ، يرتقي التلميذ بنفسه إلى الإمساك بالمصادر الأولى لفكرة لا تَمْثل لديه كفكرة سبق التفكير فيها، بل تتشكّل أمامه، معه وفيه. لأجل ذلك فليس للتلميذ في أفضل درس،من حاجة أن يُسأل تحديدا حتى يُجيب، بل ليَسْأل نفسه ويثير الاعتراضات. إنّه يحسّ أنّه مدفوع داخليا فيجيب أو يعترض تحديدا بدل المعلّم، شاهدا بذلك على أنّه يكتسب بنفسه قدرة الفكر على التحكّم.

  إنّه حينما لم نفهم معنى التعليم وتنقصنا الحرية الفكرية، نكفّ عن تخيّل الحلول الهادفة إلى تخفيف تعليم كلّ ما هو مادّة تعليم. ذلك هو المسلّم به لكلّ الإصلاحات والذي هو بالكاد مُحَجَّب : فلتغطية ما نسمّيه بغرابة الفشل المدرسي، يكفي أن نزيح شيئا فشيئا المحتويات، والاعتقاد بأنّنا قد تحرّرنا أخيرا من المقتضيات الخاصّة لمادّة ، ونمنح أنفسنا إذن وعيا حسنا كي لا ندرّس أيّ شيء. بيد أنّه يكفي كي ندرس، أن نعرف أنّ الفكر يتوجّه إلى الفكر، وأنّ الكلام وسيط بين العقول، وأنّ كل القسم أو الفصل الدراسي مطالب بشدّة بحضور فعلي لفكر يشارك في هذا الفكر بالذات. ومن كان غير متنبه من تلقاء نفسه للعلاقة بين الكلام والفكر، سواء تعلّق الأمر بفكر الآخر أو بفكره الخاص، سيكون دائما ، مهما كان المُعينات غير قادر على التعليم. فليس محتوى درس مثيلا لمنتوج صيدلي لا يمكننا أن نختصّ به دون استثناء. إنّ حضور الذهن للذهن هو الشرط البيداغوجي الوحيد : يتقوّى ولا يمكن أن نقول إنّه يُتَعَلَّم ، وليس أكثر من الحُكْم، مثلما يذكّرنا به جيدا كانط ، وإلاّ بواسطة المثال والتمرين. نفترض بالتأكيد، من جهة التلاميذ، الذين هم في نهاية الدراسة الثانوية ، – ودون أن نقف عند هذا- أنّ لديهم معرفة كافية باللغة، من دونها يستحيل القراءة والكتابة: معرفة بالإعراب والتركيب، أي تملّكا لفكر لا ينفصل دائما عن تعبيره، ذلك هو الهدف الأوّل لكلّ درس. هذا التفكير في كلمات، والقرابة بينها وتعارضها، هو أيضا أفضل وسيلة للتمييز والوصل بين المعانيnotions، واستعادة كلّ شيء انطلاقا من العناصر. يجب على التعليم الفلسفي أوّلا أن يفكّر في ذاته بوصفه تعليما أوّليا primaire . يقول هيجل بوضوح بأنّ برنامج الفلسفة هو الفلسفة الأولية élémentaire.. لنطرح من جهتنا السؤال: هل سيكون أساتذة الفلسفة آخر المدرّسين؟ يمكن بالفعل أن نتساءل إذا لم توجد علاقة بين الهيجان البيداغوجي ، الذي فاق اليوم كل الحدود، وبين ترهّل اللغة الفرنسية في المدرسة: أين يكمن السبب، وأين هي النتيجة؟

    وأخيرا يندرج درس الفلسفة في وحدة الدرس الذي يجب أن يكون محوره قابلا للتعرّف عليه من البداية إلى النهاية. هذا هو السبب في أن أستاذ الفلسفة لا يحتاج بأن يكرّر نفسه حتّى يكون لتعليمه قيمة موضوعية، لاغير سلبية ومملّة مثلما هو حال تكرار حقيقي.

   كان على التعليم الفلسفي منذ أكثر من عشرين سنة أن يواجه نوعين من التهديد: من جهة مشاريع وزارية متعاقبة تهدف إلى الحط من قيمته، لا بل إخفاءه، ومن جهة أخرى أنماطا فكرية تميل إلى إفراغه من محتواه. لم يكن من الشاذّ في الستينات أن يقع إهمال برنامج الفلسفة كليا تقريبا  لصالح ثلاثي معروف، على الموضة : ماركس نيتشه فرويد،” فلاسفة الظنّة” ، مثلما نقول حينئذ، وهو ما نوظّفه لإبطال كلّ فلسفة. أو أيضا ما  يحثّ عليه نجاح العلوم الإنسانية من  تكديس المعطيات التي أريد لها أن تكون وثائقية حول الأحلام والأمراض العُصابية وأشياء من هذا القبيل، دون أن نتوصّل أبدا إلى التوضيح الفلسفي لمفهوم واحد جوهري مثل اللاوعي.

   يُعزى فشل هذا التعليم إلى برنامج عُرف بكونه غريبا، موسوعيا وغير قابل للإنجاز.  وقد ذهبنا إلى حدّ وضع مفهوم البرنامج ذاته موضع سؤال. وذاك من أجل مصلحة التلاميذ ودافعيتهم ومن أجل بحث حرّ متحرر أخيرا من إكراهات بالية واعتباطية. ويمكننا دون مشقّة التعرّف على المذهب الذي تواجهه اليوم السلطة السياسية. وفي الواقع، فإنّ فكرة الدرس ذاتها هي التي نُسيت أو كُبتت، وليس في الفلسفة فحسب، ممّا يفسّر كوننا لا نرى دوما إلزاما بإنهاء برنامج تاريخ مثلا أو برنامج جغرافيا: يمكن للتلاميذ أن يجتازوا مناظرة الباكالوريا دون أن تتاح لهم فرصة التقاء بحوض المتوسّط أو الثورة الفرنسية!

 يمكن أن نقضّي مسارنا المهني في تناول مغالطات إبيمينيدس Epiménide أو أمراض عُصابية ولن ننتهي من ذلك. بينما يُعرّف درس، أوّلا، بديمومته، وبالتالي فالسؤال هو كيف، في حدود ما يتوفّر من وقت، نبني عرضا يستثير الفكر. فإذا ما تعلّق الأمر مثلا بفكرة الحقيقة، فإنّ حصّة درس بساعتين لا يجب أن يكون ملخّصا لدرس سنة بأكملها. فالشروط الزمنية لا تسمح لا بالاختصار ولا بالبتر. فببساطة يكون من الصعب دوما الاختصار.لا يمكن للجاهل إلاّ حساب ونشر المعلومات أو النظريات. يجب أن نكون واسعي العلم حتّى نبسّط، أو بالأحرى لاستخراج الأوّلي، ولنقول البسيط. يفترض إعداد الدرس إذن ثقافة عميقة وقدرة على التفكير تسمح بالنفاذ إلى الأبسط واستخراج الأساسي. ولابدّ بالتأكيد من كثير من الثقافة الفلسفية  والتفكير حتى ننجز في ساعتين درسا تامّا حول الحقيقة. إنّ درسا تامّا، مكتملا وقابلا للتعقّل مباشرة بالنسبة إلى جمهور متواضع، هو أبعد من أن يَعني، حينما يُنجز، أنه لم يبق لنا شيئا نقوله. لكن لا يتطلّب طرح مشكل، وشروط إيضاح فكرة، وبناء محور فلسفي في اتجاهه المستقيم، أكثر من نقطتين ثابتتين، كافيتين لتكوين كُلٍّ لا يتمثّل في تجميعٍ غير محدّد لأجزاء، بل يحيل نفسه إلى مدارالتفكير. فليس لعرض ما حدّ ولا نهاية. بينما للدرس الأصيل حدّ لأنّ له نهاية. ونتعلّم صناعة درس بواسطة القراءة وتأمّل الأعمال الفلسفية . فيمكن لمثال وملاحظة وصياغة أن تقترح اقتصادا داخليّا للتطوّر وتمنح القوّة للالتزام بالوقت المحدّد. وما يصلح لحصّة درس واحد يصلح لدرس كامل السنة. لكن هذا الدرس المفترض اكتماله هو الذي يحدّد محتوى درس بسيط ، مخطّطه وحدوده. خاصّة أنّ كل درس، مهما كان موضوعه والوقت المخصص له ، هو درس حقيقيّ في الفلسفة! وتدعو الخاتمة دوما، وهي أبعد من أن تكون حدّا يصطدم به التفكير، إلى المتابعة.(متابعة التفكير). غير أن التلميذ ليس هو ذاته: إنّه متعلّم وهو عارف بذلك. لقد اكتشفنا بعدما تجاهلنا لزمن طويل الأعمال الفلسفية ذاتها، لصالح مذاهب وقع تلخيصها سطحيا ودحضها، القراءة المباشرة للنصوص الكبرى. وقد كان ذلك تقدّما كبيرا أنقد بحقّ التعليم الفلسفي من ضروب الإهمال التي آلت إليها تخصّصات أخرى. وقد كان لهذا التقدّم أيضا مقابلا. فالدرس أضحى أحيانا مُسْتبدلا بجملة من النصوص المجمّعة المحدّدة اعتباطيا بنصوص مختارة تحول دون قراءة الأعمال مباشرة. إنّه نسيان أنّ فقرة من ديكارت أو صفحة من كانط يجب أن يستدعيها السؤال الفلسفي الذي نطرحه بأنفسنا. ويأتي الأستاذ إلى القسم، وقد قرأ وتأمل، ومعه المقطع، والصفحة أو ببساطة صيغة خاصّة لتسليط الضوء الكاشف على الموضوع الذي يَقترح تناوله. ولْيَعْزِم حينئذ على الإملاء. ففي هذه الحالة لا يكون تحليل نص تمرينا مميّزا ، بل هو جزء لا يتجزّا من الدرس، سواء استخدم لطرح موضوع، لفتح مغالقه ، ولتحديد محور أو مدار فلسفي أو ليسمح باستخلاص خاتمة. لكن يوجد ألف مصدر ، وسيكون من قبيل العبث مثلما قد يكون تهوّرا، الرغبة في تقنين إجرائيات. ينفلت الأساسي تماما عمّن لا يملك أي معنى للحرية الفكرية ويعتقد إذن أنّه متاح له التحكّم في التعليم. علينا تكراره دوما: يجب على الأستاذ أن يملك ثقافة فلسفية يراجعها باستمرار ويجدّدها بقراءات أو مطالعات متكررة. وعليه أن يكون حاضرا لقسمه؛ وأن يقدّر الشروط المؤسّساتية العادية، التوقيت والامتحانات، لا بوصفها عوائق، بل بما هي شروط لتدريسه، حتّى لو أمكن له أن يحسّ فعلا بالرغبة في أن تكون أفضل. ولكن خاصّة حينما يلتقي بتلاميذه، ويكون له شيئا ما ليقوله ، شيئا يبرّر تنقّله! وسرعان ما يدرك المستمع ما إذا كان هذا الذي يأتي إليه، قد التزم بقاعدة غريبة أشبه بطقس بال، أو ما إذا كان يأتي إليه في ثوب الفيلسوف. حينها فقط تنفتح العقول فلا توجد قمّة لا يمكن أن نبلغها. يرتسم اعتراف التلاميذ في حضورهم اليقظ والصامت، في مشاركتهم التلقائية ، في تقدّمهم، في رغبتهم اللامتناهية في التعلّم دوما وفي معرفة سعادة التفكير. يفترض التعليم الفلسفي إذن التمكّن من مجال تخصّص، ومعرفة تتضمّن مبدأ تعمّقها، وثقافة تحمل مبدأ تجدّدها، وفي النهاية حضورا للفكر يسمح بالنظر إلى التلاميذ وجها لوجه واستعدادا للكلام في علاقة فكر بفكر ، دون اعتبار استخدام متبصّر للغة وتعليما أساسيا لدى التلاميذ، باعتبارهما الشروط الأولى للتعليم الفلسفي. أمّا فيما يتبقّى ، فإنّ ما نحصّله من تقدّم يعود إلى الخبرة: فهنا كما في موضع آخر يكون المصنوع من صنع الصانع، ممّا يعفي من كلّ التربّصات غير المسؤولة. وحتى نكتفي بمثال واحد ، لنأخذ العنصر الأول من برنامج الفلسفة المقترح في باكالوريا التقنية ( (F,G,H ” الطبيعة. التقنية. الفن”. من المؤكّد انّه إذا انخرط الأستاذ في درس حول الطبيعة، بمعدّل ساعتين دوريا فحسب مع تلاميذ لا يملكون ثقافة كافية، لن يتمم درسه، فلن تكفيه السنة ولن يتعلّم أحد. إنّها بالفعل مسألة يمكن أن تُقترح في أعلى مستوى من التعليم الفلسفي كمبحث وحيد للتفكير لبرنامج سنوي ؛ وهو شأن كلا المعنيين الأخريين ( التقنية والفن). ولكن أليس من الممكن إيجاد مدار أو محور عابر للمعاني الثلاثة كما لو تعلّق الأمر بنفس المسألة، بمسألة واحدة؟  ولنتخيّل أستاذا في أريحية ، ومنذ الحصّة الأولى لدرسه ودون مقدمة ولا تفسير سابق، يخرج تلميذا إلى السبورة للكتابة: ” لو كان فنّ صناعة السفن قائما في اللوح ، لتصرّف مثل الطبيعة” ( أرسطو، الفيزياء 199b). فلن يكون (هذا التلميذ) بحاجة إلى قراءة مسبقة لأرسطو ولا إلى إعادة قراءته كي يفهم أنّ سفينة لا تَنبت مثل شجرة، وأنّ شيئا مصنوعا لا ينتج لا عن تكاثر ولا عن نموّ شأن نبات أو حيوان. يوجد هنا ما نتساءل عنه. فالتكاثر والصناعة يمكن إذن أن يطرحا محور المواجهة ما بين . وهو بالفعل سؤال قد يتصل بالطبيعة والتقنية. والأصعب ، في وضعنا الراهن ، الذي يتميّز بجهل باللغة الفرنسية الشفاهية والمكتوبة، هو إثارة تفكير في اللغة ، وهو أمر مستحدث بالنسبة إلى كثير من التلاميذ. يبدو تقريبا أن كل الدرس سيتمثل إذن في تفسير معنى الكلمات، ومحاولة الارتقاء بالقسم إلى مستوى التحكّم الأولي في اللغة وفي تنوع المعاني التي تعبر عنها. 

    ويمكن أن نتمم المثال بافتراض أنّه بعد ذلك بقليل يقوم الأستاذ بكتابة ملاحظة كانط على السبورة:”  إنّ ما نقدر عليه ، حالما نعرف كفاية الأثر الذي نبحث عنه، لا يسمّى فنّا… “. ( نقد ملكة الحكم 43). لتكن التقنية في حدّ ذاتها مختلفة جدا عن التطبيق البسيط لمعرفة ، فقد يكون ذلك هو السؤال الأساسي المتصل بهذا المعنى(أي التقنية). وفي النهاية يقول كانط أيضا:” العبقرية هي المهارة التي بواسطتها تنمح الطبيعة للفنّ قواعده” ( نفس المصدر 46). إذن فالخلق في الفنون الجميلة بعيد جدّا عن مجرد الصناعة و يمكن إذن أن تبدو العبقرية الفنية ذات صلة بالطبيعة. وقد نكون بلغنا نتيجة مرضية لو تمكّن التلاميذ من معرفة التعبير والتعليل لمختلف معاني كلمة فنّ في عبارات من قبيل فنون ومهن و فنون جميلة.

   لا يُقدّم هذا المثال بالمرّة كنموذج. فهما كانت كونية فكره ، فإنّ ثقافة كل واحد منّا متفرّدة؛ إنّها تدعونا إلى اختيارات و تساهم إذن في تكوين أسلوب خاص. لقد أردنا فحسب بيان إلى أي حدّ كان أستاذ الفلسفة حرّا في بناء وتركيب دروسه وهذا بالإضافة إلى البرنامج، على الأقلّ ذاك الذي ما يزال قائما، والذي هو أبعد من أن يكون عائقا أمام هذه الحرية بل يمثّل للأستاذ نقطة ارتكاز. حتى لا نتحدّث عن عبء!  يجب أن يكون لنا قدر كبير من الحرية كي لا نسقط في مسائل صغيرة و التوقف طويلا عند منعطفات ممّا جعل المشهد العام غير مرئي. فساعة واحدة كافية غالبا لتسليط الضوء على مسألة مركزية تقطع مسار كل التقليد الفلسفي.

   نحن نرى أن الدرس الحقيقيّ يفترض أن نكون أوّلا قد قمنا بعملية تنظيف. فلابد من تجنب الزحام الذي تخلقه الموضة الموسمية ، والتفلسف دون تحوّط وفي صمت شغوف ومتواطئ للقسم. صمت شغوف لأنّنا نهتم بالشيء نفسه ولوحده؛ ولكن صمت مثمر في لغة تشهد لفكر واحد. فالدرس هو هذا الخطاب دون بلاغة والذي يحثّ على التفكير دون أن يخلق بذاته: إنّه ببساطة يحثّ الفكر على التفكير. ولنفهم من هذا الخطاب أنّه بسيط بطريقة جازمة. يَطْلب منّا بالتأكيد ، وعلى الأقلّ ، أن نعرف القراءة والكتابة، وأن نملك من دون شكّ بالتحديد ما يجب من معجمية عالمة أو تقنية ؛ لكنه لا يقترح إطلاقا على المبتدئين ألغازا؛ إنّه لا يوحي بفكر كما يودّ البعض أن يقول: إنّه ببساطة يجعلنا نفكّر.

   يمكن أن نقوم ، بعد درس في الرياضيات ، بتمارين ونحلّ مسائل تظل معطياتها غامضة من دونها. ويمكننا بعد درس الفلسفة أن نقرأ، ونفسر نصوصا، ونكتب ونعالج مسائل. فليس المقال مجعولا كي نعرّف المُقَيِّم ما يستطيع التلميذ التفكير فيه، بل فقط ليعرف إذا ما كان مثقفا( ثقافة فلسفية) وقادرا على التفكير. إنّ درس الفلسفة يعلّم التلميذ الفيلسوف.  ومثلما أن أعظم فيلسوف في العالم يعرف نفسه تلميذا دائما للحقيقة، فمن الواضح أنّ القسم، في معهد جدير بهذا الاسم ، إذا ما يزال موجودا ، وبالنسبة إلى الأستاذ أولا ، هو فضاء للحرية ، فضاء فلسفي بامتياز. كيف نصدّق إذن، إذا ما كان (هذا الأستاذ) فيلسوفا إلى حدّ ما، أنه ما يزال بإمكانه الانتظار أن نقول له ماذا يجب عليه فعله؟  “.  

– المصدر: Philosophie, n°1, Bulletin de Liaison des professeurs de philosophie de l’académie de Versailles, CRDP, septembre 1992, pp. 25-37

* فيلسوف فرنسي ولد31   جويلية1921، وتوفي  22 جانفي 1996

 

إغلاق