إشكالية تدريس الفلسفة عند ميشيل طوزي – حمزة كدة


حمزة كدة[1]

Hamza Guedda

 

ملخص الورقة البحثية:

تلتمس هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على مسألة تدريس الفلسفة عموما، وفي البلدان العربية خصوصا، إذ سنحاول مقاربة هذه المسألة وفق رؤية ميشيل طوزي الذي له مقاربة هامة في هذا الصدد. وذلك من خلال الجواب عن إشكال مركزي مفاده: هل تستمد مقاربة ميشيل طوزي في تدريس الفلسفة، أسسها من داخل الفلسفة أم من البيداغوجيا المعاصرة وفي منأى عن تاريخها؟

ولمقاربة هذا الإشكال المركزي، نُوجز الهدف من هذه الورقة، في كون أنّ مقاربات تدريس الفلسفة، يُمكن تقسيمها إلى شقين؛ مقارباتٌ من داخل الفلسفة، وأخرى من خارجها. إذ أن كلمة المقاربة تتجسد وفق “المنهج” كأسلوب خاص، والطريقة كمنهج عام. إننا لا نقصد بالمقاربات المعاصرة التي قلنا عنها؛ من خارج الفلسفة، أنّها في معزلٍ عن تاريخ الفلسفة، بل -كما سنرى لاحقاً- تنهلُ منها؛ أي أصولها فلسفية. وعلى هذا الأساس، سيكون من مهام هذه الدراسة الوقوف عند إشكالية تدريس الفلسفة، بوصع هذه الإشكالية ضمن برنامجي النصوص والمفاهيم، كما سنعمل على تقديم قراءة فاحصة في مقاربة طوزي، وذلك بغية بيان أهمية هذه المقاربة، والصيغة التي ينظر بها إلى الفلسفة في البلدان العربية.

الكلمات المفتاحية: تدريس الفلسفة – المقاربة الديدكتيكية – الأشكلة – المفهمة – الحجاج – برنامج مفاهيم – برنامج النصوص.

استهلال.

يُعد تدريس الفلسفة انطلاقاً من تاريخها من أقدم أشكال تعليم الفلسفة، إذ يعمل المدرس في هذه الطريقة على شرح النظريات الفلسفية والفكر الفلسفي على مر العصور بشكل عرضٍ جافٍ للمعلومات. على أن هذه الطريقة مازالت معتمدة في عددٍ من البلدان. “كسويسرا مثلاً حيث يطغى تعليم تاريخ الفلسفة، وحيث نجد أن أساتذة الفلسفة هم أساتذة اللغة الفرنسية في الوقت نفسه، على أن اعتبار أن تعليم بهذا الشكل لا يتطلب مجهوداً فكرياً ضخماً، لأنه مجرد عرض للنظريات”.[2] وقد دافع أصحاب هذا الموقف عن موقفهم بكون أن الفلسفة لا تستطيع أن تنقطع عن الواقع التاريخي الذي فرض بلورة النظريات الفلسفية، “واعتبروا أن إخراج الفلسفة من إطارها التاريخي هو نوعٌ من التفريغ لمضمونها وجعله دون أهمية”.[3]

على إثر ذلك، اعتبر أصحاب تدريس الفلسفة من الخارج، أن الفلسفة لا يجب أن تقيد بزمن، وأن تعليمها يجب أن يكون في منأى عن تاريخها من أجل ألا “تفقد قيمتها الحالية ولا تعود تهم المتعلمين في معالجة المشاكل التي تطرأ عليهم في أيامنا هذه”.[4] ومن ثمة، فإن المقصود بتدريس الفلسفة من الخارج، أن يتم استنبات مناهج الفلاسفة التي زخر بها تاريخ الفلسفة، وتبيئتها وفق ما نرومه اليوم من تدريس الفلسفة، إذ تُصبح المقاربات المعاصرة في تدريس الفلسفة؛ مقارباتٌ لا تنأى عن أصلها الفلسفي، بل تنهلُ منها أكثر من الأصول التربوية، كما أن “التوجه الحالي يميل إلى أن تعليم الفلسفة لا يقوم على سرد تاريخي للوقائع، ولا على محتوى ثابت ونهائي غير قابل للنقد. فبإمكان المعلم أن ينوع المحتوى وشكل التعليم، بحسب رغبته وأن يغير فيه بحسب مستوى المتعلمين، وبحسب الأوقات المخصصة، ضمن لائحة مفاهيم موضوعة مُسبقاً”.[5]

إنّ المُقاربة التي تُشكّل مدار حديثنا في هذا الفصل، ذات أصولٍ فلسفية تتجسد في مناهج الفلاسفة التي زخر بها تاريخ الفلسفة (الحوارية – الإلقائية – الجدلية – التوليدية…) إلا أنها تختلف عنها في الهدف العام، الذي يتحدد مع المقاربات المعاصرة (ميشيل طوزي نموذجاً) في “خلق الحس النقدي”.[6]

لا يستقيم الحديث عن المقاربات المعاصرة في تدريس الفلسفة (من خارجها) دون الإشارة إلى برنامج النصوص في تدريس الفلسفة عموما وفي المغرب بشكل أخص، حيث عقبه برنامج التدريس بواسطة المفاهيم، كشكلٍ فعليّ استنجد بمقاربة الكفايات عند ميشيل طوزي. من ثمة، كيف يتم التدريس بواسطة النصوص؟ وكيف يتم التدريس بواسطة المفاهيم؟ وما الفرق بينهما؟ وأخيرا كيف حدد ميشيل طوزي مقاربته في تدريس الفلسفة؟

تدريس الفلسفة بواسطة من النصوص.

شكّل برنامج النصوص، ركيزة أساسية في المقاربات المعاصرة لتدريس الفلسفة، وذلك لكوِنه يساعد على تجويد عملية الشرح والتحليل، كما أن اعتماد النصوص يروم تحقيق التفكير النقدي عند المتعلم الذي يعدُّ هدفاً مهماً من أهداف تدريس الفلسفة.

لئِن كانت المُقاربات المعاصرة في تدريس الفلسفة تؤكد على وجوب ‘دكدكة’[7] الفلسفة بلغة ميشيل طوزي، وضرورة إخضاعها لديدكتيكٍ يقدر على تنزيل معارفها العلمية وتكييفها وفق متطلبات المتعلمين، فإن أهمية تدريس الفلسفة بالنصوص تكمن في كونهِ يذهب بالمتعلم إلى التفكير انطلاقاً من مادة فلسفية وليس بمعزلٍ عنها؛ “إذ كيف يتعلم الطالب التفكير إن لم يكن هناك مادة للتفكير؟ وكيف نهرب من التلقي السلبي للمعرفة على شاكلة امتصاص الإسفنجة للماء؟ نتعلم أن نفكّر فلسفياً عندما نفكّر انطلاقاً من مادة فلسفية وهي النص[…] الذي يُعرف المتعلم على الأفكار”.[8]

ومن ثمة، فرغم أن النصوص الفلسفية -كمقاربة في تدريس الفلسفة- تنهل من المعرفة الفلسفية التاريخية، فإن الهدف العام لتلك النصوص لا يتحدد في فكرة الاجترار المعرفي، وإنما يتبلور بشكلٍ فعليّ في البحث عن السؤال أو مفهوم أو مشكلة اعتماداً على ذلك النص؛ لذلك “يحرك استعمال النص الفلسفي لدى المتعلم ثلاثة أمور: فن التساؤل، النقد، المعرفة”[9] فيكون هذا الرجوع إلى النصوص الفلسفية، رجوعاً تربوياً، “خصوصاً لناحية قوة الفكر والصدمة الإيجابية التي يتركها بعض الفلاسفة من خلال كتاباتهم”.[10]

إن الهدف من الاشتغال على النصوص الفلسفية هو اعتبارها دعامة أساسية لبلوغ التفلسف، إذ ممارسة التفلسف يعني “إقامة علاقة مع النصوص ومحاولة فهمها وإدماجها في التفكير الخاص ومواجهتها مع نصوص أخرى، لأن المتعلمين يجدون صعوبة في قراءة أعمال الفلاسفة، وهذا ما عبرت عنه مختلف الأبحاث التي شخصت صعوبات القراءة عند المتعلمين”[11]. كما أن برنامج تدريس الفلسفة بواسطة النصوص لا يعتمد على النص الفلسفي فقط، بل يسمح باعتماد نصٍ غير فلسفي، إذ في الواقع يمكن قراءة نصوصٌ فلسفية لفلاسفة عظماء بطريقة غير فلسفية، كما يمكن لنصوص غير فلسفية أن تفيد الفلسفة، لأن الفلسفة هي أولاً وأخيراً عمل الفكر. يظهر إذن، أن استخدام النصوص في تدريس الفلسفة، يبقى شكلاً ضرورياً، إذ يستوجب تجاوز الدرس الفلسفي الإلقائي إلى مستوى التعلم الذاتي المبني على الوضعيات الديدكتيكية، حيث يعمل المدرس على إخراج الفكر المتأمل من صرحه العاجي إلى مستوى بناء المشكلة المعالجة. إلا أن تحقيق الغاية من هذه النصوص، ربما تحتاج إلى مزيدٍ من الضبط، بُغية تجاوز العموميات في إغراق المتعلم داخل النظريات الفلسفية دونما الرفع من المستويات العليا للتفكير، أي محاورة أفكار النص وتحليلها، وتركيبها واستنبات المشكلة والمفهوم، حيث “يكون النص سنداً لفكر المتعلم، أثناء قيامه بعملية التفلسف”.[12]

تدريس الفلسفة بالمفاهيم.

يقوم برنامج تدريس الفلسفة بواسطة المفاهيم، على “وضع لائحة بالمفاهيم الفلسفية الأساسية التي يجب أن يحصّلها المتعلم أثناء تعلّمه الفلسفة في المدرسة، والعمل على إيصال هذه المفاهيم بطريقة الشرح والتحليل والمناقشة والحجاج.[13] إذ شكّل هذا البرنامج اختياراً بيداغوجياً تبنته منظومة التربية والتكوين المغربية، في سياق تفعيل المقاربات التشاركية، وفي طليعتها مقاربة التدريس بالكفايات، وذلك لما يُتيحه هذا البرنامج من إمكانيات إكساب المتعلمين آليات فعل التفلسف بالموازاة مع استيعاب مضامين معرفية فلسفية بشكل متوازن”.[14]

وقد نصّ المنهاج الدراسي الجديد لمادة الفلسفة بالثانوي التأهيلي على ضرورة الاشتغال على مفاهيم فلسفية من خلال الوقوف على تمفصلاتها وتقابلاتها وإبراز كيفية تميزها، في سياق مجالات محددة[15]، بغية تلبية حاجيات المتعلم المغربي الفكرية والمعرفية والوجدانية، فضلاً عن إنماء شخصيته بشكل متكامل، إذ هنا يتحدد الرهان الأساس لتدريس الفلسفة وفق برنامج مفاهيم. إن هذا الإعلان الصريح لأهمية برنامج مفاهيم، هو الذي يحدد الهوية البيداغوجية للبرنامج المذكور آنفاً، في سياق تعليم مجزوءاتي، تحتوي فيه كل مجزوءة مجموعة من المفاهيم المترابطة والمؤطرة بمنهاج تربوي، حيث يتم تصريفه عبر نصوصٍ فلسفية. ومن ثمة، فإن مرتكزات وأسس برنامج مفاهيم، مستمدة من المكانة التي احتلها “المفهوم الفلسفي” في سياق تاريخ الفلسفة من جهة، وفي ارتباط هذا المفهوم بآليات التفكير الفلسفي من جهة ثانية، إذ “اعتبره بعض الفلاسفة العقلانيين على أنه النظرة المجردة للعرض المادي أو الفكري؛ واعتبره البعض الآخر، وخصوصا كانط، الأداة المختصة ببناء المعرفة الموضوعية والعلمية”. في حين نجد دولوز الذي اعتبر أن الفلاسفة أخذوا المفهوم باعتباره معرفة أو تمثلاً معطيين، وفي منأى عن الواقع الفلسفي. كما أنه رأى أن المفهوم يُبدع ولا يعطى، وقد “عرّف دولوز المفهوم بشكلٍ مُغايرٍ تماماً للتعاريف السابقة، ليس المفهوم بسيطاً، إنما يتشكل من مكونات عديدة ويتعدد من خلالها. يتعلق كل مفهوم بمشكلة أو بمشاكل، من دونها لا معنى له”.[16]

يُشير ميشيل طوزي إلى أن المفهوم يحمل في طياته تصورات وتمثلات أساسية أكثر من الفكرة، لذلك بإمكان المعلم القيام بمفهمة المفهوم، وذلك إما باستخراج معانيه بواسطة العمل على اللغة، وإما بأشكلته عن طريق وضع تمثلاته الفطرية والمكتسبة موضع الشك والتساؤل، وإما باعتباره أداة فكرية للواقع انطلاقاً من مجالات تطبيقه.[17] وهذا ما سنوضحه أكثر لاحقاً.

عموماً يمكن القول؛ إنّ أهمية التوظيف البيداغوجي والديدكتيكي لبرنامج مفاهيم في تدريس الفلسفة، تكمن في كونه يتيح إمكانية معالجة موضوعات وفق خصوصيات المتعلمين وتمثلاتهم ومكتسباتهم المعرفية والمنهجية، ومن ثمة، فهذه المقاربة في الاشتغال تتلاءم ومقتضيات المقاربات الفعالة التشاركية، وهو ما يوسع من دائرة التفاعل داخل المثلث الديدكتيكي (المتعلم/المدرس/المادة الدراسية) إذ يتمكن المتعلم من خلال ذلك، من اكتساب المعرفة الفلسفية والتمرن على التفكير الفلسفي. وجدير بالذكر أن برنامج مفاهيم يتميز عن السابق (النصوص) في كونه يتيح إمكانية فهم النصوص وتحليلها ومناقشتها.

ومن ثمة، فإنّ هذه المقاربة لا تهدف إلى خلق فلاسفة بالمعنى التقني للكلمة، بل تساعد المتعلم على عيش تفكير منطقي، “أي أن يسعى إلى طرح الاستفهامات ووضع التصورات والمفاهيم والحجج والبراهين، كل ذاك في سبيل تخطي مشكلات الحياة وصعوباتها التي تطرأ عليه مختلف الصعد”.[18] وعليه، فإن نجاح برنامج مفاهيم يقتضي من المتعلم أن يتقن ثلاث قدرات حددها ميشيل طوزي وهي؛ الأشكلة، المفهمة، والحجاج.

مُقاربة ميشيل طوزي في تدريس الفلسفة.

تعدّ إسهامات ميشيل طوزي في ديدكتيك الفلسفة، تجارب لا محيد عنها، إذ يقال إن مقاربته نهلت من الطرق البيداغوجية في منأى عن الأصول الفلسفية، وهذا القول غير صائبٍ أبداً؛ إن مقاربات تدريس الفلسفة من خارجها، لم تقطع ولم تلغي المقاربات الداخلية التي حفل بها تاريخ الفلسفة، وإنما نهل منها، وعمل على تبيئتها وفق ما نرومه من تدريس الفلسفة، وتختلف عنها فقط في الهدف العام؛ فإذا كانت المقاربات الداخلية تدرس الفلسفة كتاريخ ومعارف (الموقف الهيجيلي) فإن المقاربات التشاركية الخارجية تهدف إلى تدريس التفلسف (الموقف الكانطي) وزرع التفكير الفلسفي وبناء الحس النقدي عند المتعلم انطلاقاً من تلك المعارف، أي اعتمادها كدعامات للوقوف عند المفهمة، والأشكلة والمحاجة بلغة ميشيل طوزي. وعلى إثر ذلك، حاولنا عبر هذا الشق أن نتحدث عن إسهامات ميشيل طوزي، وأن نوضح بشكل جليٍ القدرات الثلاث عنده؛ المفهمة، الأشكلة، المحاجة. وذلك من خلال كتابه “بناء القدرات والكفايات في الفلسفة، تعلم الفلسفة داخل الثانويات، ترجمة حسن أحجيج، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2005. إذ يتموضع هذا العمل حسب طوزي، داخل سياق تغيير عميق للممارسات البيداغوجية المعتمدة في تدريس مادة الفلسفة في الثانويات، لذلك حاول أن يطرح مجموعة من الأسئلة التي يثيرها رهان تعليم فلسفي معمم، وتسليط الضوء على المشكلات البيداغوجية الناتجة عن ذلك الرهان. على أن طوزي قدم مشروعه هذا كتجربة مدرس وباحث ومكون وليس كنموذج لتدريس الفلسفة.

لقد استهلّ طوزي كتابه هذا بالتأكيد على أن تدريس الفلسفة يرجع إلى بداية الفلسفة الغربية نفسها، وذلك عبر مدارسٍ عديدة كانت توجد في العصر القديم. إذ نجد عند سقراط عبارة “اعرف نفسك بنفسك”، التي مؤداها أن التفلسف يمارس بكيفية ذاتية.[19] وحينما جاءت الثانوية في عهد نابليون أضحت الفلسفة تُدرس داخل نظام مدرسي، إلا أن هذا التدريس لم يستفد منه إلا النخبة التي سرعان ما انتهى عهدها، ليترك المجال لمرحلة التدريس الجماهيري للفلسفة. وقد حدد طوزي أزمة التدريس الفلسفي، التي تنأى عما هو بنيوي، وتتحدد بكونها أزمة ظرفية للغاية لأسباب خارجية (قيمية – سوسيولوجية – ابستمولوجية…) ولأسباب داخلية (النتائج الكارثية المتمثلة في نقط الامتحانات – مدى قدرة المتعلمين على استيعاب هذه المادة – انخفاض درجة الاعتراف الاجتماعي والمؤسسي بالفلسفة – خوف المدرسين من إلغاء المادة).

يُشير ميشيل طوزي في خضم حديثه عن المساهمة الديدكتيكية، إلى أن المعاهد المختصة في البحوث حول تدريس الفلسفة أو مجلة مختصة بديدكتيك الفلسفة، ظلت غائبة تماماً، حتى تأسست سنة 1991 وحدة لديدكتيكا اللغة الفرنسية والفلسفة بقسم ديدكتيكات العلوم بالمركز القوي للبحوث البيداغوجية. وقد برر طوزي هذا الغياب، بكون أن الاهتمام انصب على التعليم الابتدائي والسلك الأول، في حين أن الفلسفة كانت تدرس لمدة سنة فقط، مما أدى إلى عدم وجود دراسات حول هذه المادة، فضلا عن التحفظ على دكدكة الفلسفة، إذ هي معرفة ديدكتيكية من حيث جوهرها. ومن ثمة، فإن طوزي يؤكد على أن هذا التحفظ ينبغي أن يخضع للمساءلة، لأنه يروم إلغاء كل تفكير ديدكتيكي، إذ يحدد طوزي أربع سبل لتعليم فلسفي معمم يخضع لمنطق التعلم، وتحدد في؛ تسليط الضوء على أهداف التعليم الفلسفي وتحقيقه – تعميق نواة تعلم التفلسف كطريقة في التفكير – تطوير تقييم أكثر تكويناً – ممايزة البيداغوجيا؛ أي تنويع مناهج التدريس لمعالجة تباين التلاميذ والفئات المختلفة.

يتحدث طوزي عن أهمية بيداغوجيا الأهداف كمقاربة لتدريس الفلسفة، التي تعطي الأولوية لتعريف بعض الأهداف الشاملة المدرسية والاجتماعية انطلاقاً من الغايات التربوية، كما تحدد لكل هدف شامل أهداف عامة وتقسم كل هدف عام إلى أهداف فرعية نوعية مصاغة تبعاً لبعض المتطلبات. بيد أن الفائدة المنهجية لهذه البيداغوجية محدودة لأنه يمكن الاعتراض على هذه البيداغوجيا، لكونها تقع في النزعة الاختزالية ذات أهداف محدودة بالمدى القصير. ومن ثمة، فإن طوزي يؤكد على المقاربة الذهنية (العلبة السوداء) لعمليات الفكر أكثر ملاءمة لمشروع تعلم الفلسفة، إذ ترتكز على مفهوم الهدف النواة، حيث يتحدد في ثلاث أهداف نواتية؛ القدرة على المفهمة الفلسفية لمدلول ما، والقدرة على الأشكلة الفلسفية لمسألة أو مدلول ما، والقدرة على الحجاج الفلسفي على أطروحة ما.

  • المفهمة:

يُشير ميشيل طوزي إلى أنه لا وجود لتفكير فلسفي دون مفهمة للمدلولات، حيث أن كلمة “مفهمة” مشتقة من “فهم”، وتعني لغوياً؛ معرفة الشيء بالقلب، وفهم الشيء يعني يعقله، وعليه، فالمفهمة ليست مجرد معرفة علمية بعيدة عن العقل والمنطق، وليست مجرد كلمة، بل تدخل ضمن إطار المعرفة والعقلنة. لقد أكد طوزي أن المفهمة هي عملية فكرية تقوم على تحويل الفكرة إلى مفهوم، “ولكن في غالبية الأحيان يمتلك المتعلم تصوراً مسبقاً للفكرة المطروحة، مثلاً إذا ذكرت كلمة “حرية” يتبادر إلى ذهنه “أن يفعل ما يريد”.[20] إن القيام بالمفهمة كما يشير طوزي، يعني أن يطرح هذا التصور الأول على بساط البحث للتأكد من صوابه.

يُمكن إيجاز الوظيفة الأساسية للمفهمة في التجريد؛ حيث يتم الانتقال من الواقع إلى المفهوم، وهذا الإجراء ينبغي أن يقوم على اليقظة والتجربة والمشاهدة الواقعية والتحليل الحقيقي، فضلا عن القدرة على التوليف بين مختلف المعاني المقترحة.

لذلك يعتبر طوزي أن للمدلولات علاقة ثلاثية؛ علاقة باللغة، لأنه يعبر عن بكلمة تندمج في نسق التواصل، ثم علاقة بالفكر، لأن المدلول يحيل على فكرة أو مفهوم، وأخيراً علاقة بالواقع، لأن ذلك المفهوم يُعد موضوعاً فكرياً يستهدف العالم. ومن خلال ذلك، يوجِزُ طوزي إمكانات مفهوم مدلولٍ ما، ويحددها في الشكل التالي:

– المدخل اللغوي: إنشاء معنى مفهومه بالاشتغال على اللغة (جانب اشتقاقي أو تاريخي أو دلالي، المرادفات، المتضادات، الاستعمال المألوف والاستعمال الفلسفي والتمييز بينهما).

– مدخل التمثلات: بأشكلته انطلاقاً من الطعن في تمثلاته العفوية والاصطلاحية أو انطلاقاً من إقامة علاقة استفهامية بينه وبين مدلولات أخرى.

– بناء مفهوم كأداة لتعقل الواقع انطلاقاً من مجالات تطبيقية.

– الأشكلة:

يُشير طوزي إلى أن هناك عوائقٌ عدة تواجه بناء الأشكلة، إذ على المدرس أن يتحقق له الوعي بشكل جلي بالمسائل التالية؛ ماهي المساءلة الفلسفية؟ ماذا تعني الأشكلة في الفلسفة؟ وما هي الإشكالية؟ وديدكتيكياً، كيف يمكن للتلميذ أن يمضي نحو الأشكلة؟

حينما نتحدث عن الأشكلة، ككفاية بنائية تساهم في جعل الفكر فلسفياً، فإننا نتحدث عن قدرة المساءلة عن المعنى أو الحقيقة أو الشك، وقد عرّفها معجم روبير في طبعته عام 2000 على أنها فنّ طرح المشكلات، إذ “تفترض الأشكلة القدرة على توضيح المشكلات وترتيبها بحسب أولويتها[…] وأن يضع المؤشكل نفسه في حقل أسئلة مشروعة فكرياً”.[21]

إن القيام بعملية الأشكلة ليست حصراً على الفلسفة، “إذ أصبحت معظم العلوم الإنسانية وكتابة المقالة الموضوعية ضمن حصص الآداب في التعليم الثانوي تتطلب عملية أشكلة.[22] بيد أن تعلم الأشكلة فلسفياً، عملية تحتاج إلى تمرن وتمرس. في هذا الصدد، ترى “نيكول غراتالو”[23] ضرورة أن تكون عملية الأشكلة إجراء فردياً وجماعياً، إذ يتطلب هذا الأمر العمل على وضعيات تعلّمية لا تحصر عمل المتعلم بالتمرس والتقليد، بل بالتساؤل وبمواجهة صعوبات مفاهيمية. ومن ثمة فإن الأشكلة تقتضي في البدء، التساؤل؛ أي وضع فكرة ما موضع شك، ثم تحويلها إلى مشكلة أي التساؤل حولها وطرحها على شكل سؤال، وثانياً، اكتشاف المشكل الفلسفي انطلاقاً من مفهوم ما، أو من خلال العلاقة بين الأفكار، ثالثاً، صياغة هذه المشكلة بشكلٍ متأرجح أي بشكل يحتمل إجابات متعددة. ويمكن الاشتغال على هذه المراحل الثلاث، عبر؛ التدريب على مساءلة شبه بديهية، إذ ينبغي على المتعلم أن يتمكن من الشك بغية الوصول إلى الكفاية واليقين، وهذا يتحقق من الانطلاق من أحكام المتعلمين المسبقة وتطويرها، ثم عمل المتعلم على اكتساب طريقة المساءلة الفلسفية التي تخص الجهل بالمسائل الفلسفية وغير الفلسفية، ثم بصورة تناوبية تسمح له بمعالجة الموضوع من مختلف زواياه، ثم قدرة المتعلم على اكتساب طريقة المساءلة بصورة تناوبية، إذ تتعلق هذه القدرة بتجهيل وجهات النظر المخالفة لوجهات نظرنا أو مقاومة.

  • الحجاج:

تنطلق الفلسفة من مبادئ نظرية لا تفترض القبلية بشكل مطلق، عكس الرياضيات التي تنطلق مبادئ قبلية يقينية، لذلك فالفلسفة مجالها الحجاج. ويُعرّف “لالاند” الحجة الفلسفية بأنها استدلال يرمي إلى برهان قضية معينة أو دحضها.

يعتبر طوزي أن الحجاج منهج عقلاني لتبرير جواب على سؤال، وأساس التفكير عند الإنسان، فالتفكير أساساً يقوم على حجاج الذات، إنه نوع من ثنائية الذات مع نفسها، حيث تصبح هذه الذات هي المُحاوِر والمُحاوَر، ويضيف أن الحجاج الفلسفي يكون عقلياً لا عاطفياً، وذلك عبر توجهه نحو جمهور عالمي. لهذا يجب أخذ اعتراضات الآخرين على وجهة نظرنا وحججنا كمثيرات للتفكير .

لقد وضع طوزي مجموعة من الشروط التي تُشكّل قواعد شكلية تساعد الحجاج على تحقيق غاياته وتعطيه قوة وصلابة؛

– ألا تناقض الحجج نفسها: أي أن يبتعد المتعلم عن استخدام أطروحتين غير متوافقتين (أي تلغي الواحدة الأخرى).

– أن تكون متماسكة ومتوافقة مع الأطروحة المؤيدة للموضوع.

– ألا تكون وصفية وألا تعتمد على العاطفة.

– ألا تكون تكراراً أو حشواً أو إطناباً (إعادة صياغة النص لا يغني النص في شيء).

– أن يتم تحديد المصطلحات المستخدمة.

إن الفكر الفلسفي لا يقبل الاختزال في آليات محددة، لذلك يعتبر طوزي أن المفهمة والأشكلة والحجاج، ما هي إلا مهارات تيسر عملية الاشتغال، وارسم لنا مساراً لتدريس الفلسفة، لكنها ليست جوهر العملية التعليمية التعلمية من أجل ألا نقتل الفكر الإبداعي المميز للدرس الفلسفي، إذ كل درس فلسفي هو عبارة عن سيناريو جديد يجب التعامل معه وفق محدداته.

خاتمة:

ختاما يمكن القول، إن المقاربات المعاصرة في تدريس مادة الفلسفة، بمثابة أضمومة من المناهج الفلسفية التي تشكلت وأنتجت لنا ديدكتيكا خاصا بالفلسفة، بمعنى أن لها أصولا فلسفية تتحدد في مناهج الفلاسفة عبر التاريخ، تجسدت بشكل واضح في المقاربات التشاركية المعاصرة (الكفايات)، بعد أن أصبحت الفلسفة مادة دراسية، حيث أضحت تهدف إلى تحقيق كفاية التفكير النقدي وإعمال الفكر لدى المتعلمين، لذلك فإن مقاربة ميشيل طوزي في تدريس الفلسفة، هي مقاربة من داخلها كذلك رغم أنها معاصرة، كون أنها تقوم على مناهج ذات أصول فلسفية، إضافة إلى أنها مقاربة من خارج الفلسفية، من زاوية أنها تستعين بالمفاهيم البيداغوجية المعاصرة.

الببليوجرافيا:

  • د..بيار مالك – الفلسفة وتعليمها، بيروت، دار النهضة العربية، سنة 2016 الطبعة الأولى.
  • ميشيل طوزي ومن معه، بناء القدرات والكفايات في الفلسفة، ترجمة حسن أحجيج، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى. 2005.
  • سكينة الكزولي، مقال الفلسفة وسؤال التحويل الديدكتيكي، مجلة نقد وتنوير، العدد السابع، 2021.
  • ميشيل طوزي – المقاربة بالكفايات في تدريس الفلسفة، ترجمة عز الدين الخطابي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2018.
  • وزارة التربية الوطنية المغربية، منهاج مادة الفلسفة والفكر الإسلامي بالتعليم الثانوي، الرباط، 1996.
  • وزارة التربية الوطنية المغربية، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بالثانوي التأهيلي، الرباط، 2007.

[1] أستاذ الثانوي التأهيلي، مادة الفلسفة (المغرب). البريد الإلكتروني ([email protected])

[2] د..بيار مالك – الفلسفة وتعليمها، بيروت، دار النهضة العربية، سنة 2016  الطبعة الأولى، ص 137.

[3] المرجع السابق ص 138.

[4] د.بيار مالك – الفلسفة وتعليمها، المرجع سابق، ص 138.

[5] المرجع السابق، ص 138.

[6] المرجع السابق، ص 139.

[7] تُستعمل هذه الكلمة في المجال البيداغوجي المغربي، إذ يُقصد بها إخضاع الفلسفة لديداكتيك خاص بها، على أن هذا المعنى تم استنباته من موقف ميشيل طوزي.

[8] د.بيار مالك – الفلسفة وتعليمها، مرجع سابق، ص 140، (بتصرف).

[9] المرجع السابق، ص 140، (بتصرف).

[10] المرجع السابق، ص 140. على أن المؤلف أحال إلى صاحب الفكرة وهو: Raffin في كتابه “Usage des textes dans l`enseignement de la philosophie, paris, p 5-6”

[11] حمد أيت موحى – مقال ديداكتيك الفلسفة، مجلة ديداكتيكيا العدد 2، يناير 1992، ص 27.

[12] د..بيار مالك – الفلسفة وتعليمها،، مرجع سابق، ص 144.

[13] المرجع السابق، ص 145.

[14] وزارة التربية الوطنية، منهاج مادة الفلسفة والفكر الإسلامي بالتعليم الثانوي، الرباط، 1996. ص 03.

[15] وزارة التربية الوطنية، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بالثانوي التأهيلي، الرباط، 2007، 05.

[16] د..بيار مالك – الفلسفة وتعليمها، مرجع سابق، ص 145.

[17] د..بيار مالك – الفلسفة وتعليمها، مرجع سابق، ص 146.

[18] المرجع السابق، ص 148.

[19] ميشيل طوزي ومن معه، بناء القدرات والكفايات في الفلسفة، ترجمة حسن أحجيج، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى. 2005، ص 03.

[20] د..بيار مالك – الفلسفة وتعليمها،، مرجع سابق، ص 157.

[21] د..بيار مالك – الفلسفة وتعليمها، مرجع سابق، ص 148.

[22] المرجع السابق، ص 151.

[23] أستاذة متخصصة في ديداكتيك الفلسفة وتعليمها، لها العديد من المؤلفات على هذا الصعيد.

إغلاق