ديداكتيك تعلّم التفلسف – ميشيل توزي – ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

  • ديداكتيك تعلّم التفلسف – ميشيل توزي
  • ترجمة : عبد الوهاب البراهمي

        ماذا بشأن هذا التيار الذي أسمّيه حداثي، وما هي مكاسبه المؤقّتة من بحثي، بل من بحثنا، إذ يتعلق الأمر بعمل فريق كنت منسّقه ومنشّطه؟. إنها إذن مكاسب بحث جماعي. وما كنت صانعا شيئا لو لم أكن دائما مع عمل جماعي. يتعلق الأمر بديداكتيك تعلم التفلسف وهو مختلف جوهريا عن ديداكتيك فلسفي. إنه نقاش بين كانط وهيجل. يقول كانط في نهاية ” نقد العقل المحض” :” لا يمكننا تعلّم الفلسفة، بل يمكننا تعلّم التفلسف”. ذلك أن الفلسفة كتوحيد شامل totalisation كتشميل، كنسق لم توجد بعدُ أو هي ربّما جزء من حدود العقل. يلاحظ هيجل هذه الفكرة فيجيب:” ولكننا حينئذ، لا يمكن أن يكون لنا إلاّ إدراك صوري للفلسفة، حيث تكون العمليات الذهنية غير ذات صلة بتاتا بمحتوى فكري. ماذا يعني تعلّم تفلسف لا محتوى له؟ يجب أوّلا تعلّم الفلسفات التي تمنح محتوى للفلسفة”. و”تعلّم التفلسف” يعني أن نكون بجانب التعلّم. والحديث عن تعلّم التفلسف، هو إنجاز ضرب من الثورة الكوبرنيكيّة مثلما يقول كلاباراد Claparede. وإنجاز ثورة كوبرنيكية في البيداغوجيا يعني المرور من وجهة نظر المعلّم الذي يَعْرِض إلى وجهة نظر التلميذ الذي يتعلّم. يعني الحديث عن التعلّم إذن، التساؤل كيف يمكن أن يكون التعليم تعزيزا للتعلّم: سيقع توسّط وجهة نظر المعلّم بل أقول ستتجاوزها وجهة نظر من هو بصدد التعلّم. كيف نساعد أحدا على التعلّم؟ لأجل ذلك يتحدّث البعض عن الوسيط  بدل المعلّم. سيكون مدرّس الفلسفة وسيطا بينه والتلميذ في وضعية بحث، بأن يقترح عليه أدوات ذهنيّة ولكن أيضا محتويات لمساعدته على القيام بهذا المسار. هذا هو روح ديداكتيك تعلّم التفلسف. أعرّف إذن هذه الديداكتيك لتعلّم التفلسف بالطريقة التالية:” إنّها محاولة لتوضيح وتفعيل المسارات الممكنة لتعلّم التفلسف وتعليمه في إطار تدريب مدرسي initiation scolaire”. هي إذن محاولات للتوضيح والتفعيل في مستوى الدراسة والبحث والتفكير. ونحن هنا في الجانب العملي : أن نقدم مسالك للبحث ومسارات تسمح بهذا التعلّم.

       أ) المسلّمات:

    يفترض هذا التصوّر عناصر عديدة:

1- فكرة أن ديداكتيك تعلّم التفلسف هو أوّلا- وعلى الأقلّ-  فلسفي. فديداكتيك لتعلّم التفلسف لا يكون فلسفيا لا يمكن أن يكون ديداكتيك تعلّم التفلسف. إنّه يندرج ضمن تصوّر لما هو التفلسف. لقد قدّمت إحالاتي، والمطلوب الآن توضيحها لفهم الموقع الذي منه نتحدّث وداخله نظريّا. أضع هذه المسلّمات في مستويين:

   1- نظرية ما في المعرفة هي على صعيد بناء الحقيقة أكثر منها على صعيد اكتشافها في بداهة وحدس ورؤية.

   2- مستوى إيتيقي وسياسي: خيار ديمقراطي وحقّ الجميع في الفلسفة. فمن واجب الدولة أن توفّر إمكانية ذلك لسائر المواطنين، بما أنّنا في بلد ديمقراطي، أي أن نستنير باستخدام العقل.” الحقّ في الفلسفة ” هو عنوان كتاب لداريدا، هذا الفيلسوف الذي كان سببا في وجود ( فريق البحث لأجل تعليم الفلسفة) سنوات 1975، في وقت يريد فيه وزير التربية ( هابي Haby) آنذاك أن يجعل الفلسفة مادة اختيارية، ممّا أثار حفيظة أساتذة الفلسفة وعديد المثقفين الفرنسيين. نشأ إذن في هذا السياق هذا الفريق (GREPH ) الذي أعاد النظر في الفلسفة التقليدية في ذات الوقت الذي كان يدافع فيه عن وجود الفلسفة. وقد تطوّر في مستوى هذا الفريق تفكير ذي توجّه جدّ ماركسي عن تدريس الفلسفة كإيديولوجيا بورجوازية، لم يفضي إلى اقتراحات لبيداغوجيا عملية. ( ولم تجد فكرة ديداكتيك للتفلسف أرضية للظهور، إلاّ بعد سنوات، وليتبلور أوّل نقد في سنوات 1990). أحيلكم هنا إلى كتاب داريدا المهمّ جدا، والذي تمحور حول تعليم الفلسفة والصلة بين الفلسفة والديمقراطية. والنقطة الثانية من هذا المستوى الإيتيقي: مصادرة القابلية التربوية الفلسفيةéducabilité philosophique واستعير هذه العبارة من فيليب ميريو. إنّها فكرة مفادها أنّ الإنسان أساسا، وكلّ إنسان قابل للتربية، وأنّ حدود هذه القابلية موجودة في إمكانيات من يتلقى التربية و التي هي في حاجة للتطوير ولكن في الأفكار المسبقة أو الاستقالة، أي استسلام المربين” le”baisser les bras des éducateurs .تكذّب الوقائع هذه المصادرة كل يوم أو هكذا تزعم. ويتعلّق الأمر بالتحديد بمصادرة ، بفكرة ناظمة يجب أن تكون مبدأ لنشاطي البيداغوجي، الذي يجب أن يوجّه عملي: أن نعتقد ، إذ تتنزل هذه المصادرة على صعيد الاعتقاد، أنّ كلّ شخص، وفق طريقته وبمستطاعه، بإمكانه في كلّ الحالات، النفاذ إلى التربية الفلسفية. فإذا سلمنا عندئذ، على مستوى إيتيقا قابلية التربية الفلسفية، وإذا ما جعلنا الحق في الفلسفة حقا للجميع، وجب توفير إمكانية  ممارسة  هذا الحق في كلّ المؤسّسات ؛ حتى لا يظل هذا الحق شكليا، وأن توجد ممارسة حقيقية لهذا الحقّ بتمارين تنمّي قدرة حقيقيّة على التفلسف. في هذا الموضع يمكن أن يشتغل ديداكتيك الفلسفة. لدينا إذن نوعين من المسلمات الفلسفية:

    – مسلمة من نوع إيتيقي وسياسي ونتيجتها حق الجميع في الفلسفة، وقابلية التربية الفلسفية للجميع.

    –  نظرية  في المعرفة ستكون بالأحرى على صعيد البنائية .

2- العنصر المكوّن الثاني لديداكتيك الفلسفة هذه، و هنا نخرج من التيار الثاني للإحالة إلى الذات: يمكن لهذه الديداكتيك أن تُثرى بعدد معين من التخصّصات الإسهاميّة  ذات الطابع العلمي خاصة، مع اعتبار ما يعنيه العلم، أي جملة من القضايا وقعت تسميتها بشكل مؤقّت وملائم تحت معيار قابلية التفنيد falsifiabilité، مثلما يقول بوبر، بواسطة مجموعة صغيرة من الخبراء؛ قضايا تبدو بمثابة  تفسير للواقع، تشكّل نوعا ما مذهبا في لحظة معيّنة. يتطوّر ديداكتيك الفلسفة على أساس هذا التصوّر بمقدار تطوّر هذه الإسهامات العلمية للتاريخ.

3- عنصر آخر على غاية من الأهميّة، لا تكتفي هذه الديداكتيك للفلسفة بخطاب عن ديداكتيك الفلسفة بل تطلب أفعالا. فلا يمكن لها أن تبنى إلاّ برجال ممارسة، في صلب بحوث- أعمال تختبر عددا معينا من الأدوات تحسّسا، مع تحاليل عملية، قصد  النظر تدريجيّا كيف يمكن إدماج هذا الحقّ في الفلسفة بشكل جدّ ملموس في الواقع الصعب أحيانا للأقسام أو الفصول.

4- وأخيرا، لا يمكن لهذه الديادكتيك للفلسفة أن تكون علميّة في معنى أنّها تقدّر تنظير شيء ما يفرض نفسه على الجميع. اعتقد جازما أنّه توجد طرق عديدة لممارسة الفلسفة، وأنّه توجد عديد الديداكتيكات للفلسفة. ذلك أنه لا يمكن للباراديغم الإشكالي أن يصبح باراديغم مذهبي؛ يجب أن يستمرّ النقاش بين الفلاسفة، بين الفلاسفة وغير الفلاسفة، كي لا تصبح هذه الديداكتيك العقيدة البيداغوجية الجديدة، وموضة للأفراد وللنظام. توجد إذن مشروعية ديداكتيكات في الفلسفة مساندة لتنوّع التصوّرات الفلسفية للفلسفة وتنوّع التصوّرات الفلسفية للتعليم الفلسفي. لقد حدث النقاش هكذا بواسطة، ويجب أن يكون سجاليا أقلّ ما يمكن، إذا أردنا أن يكون فلسفيا.

    يتعلّق الأمر بديداكتيك تعلّم التفلسف غير علميّ، لأنّه لا يمكن أن يكون مذهبيّا ولا أن يفرض ولو مؤقتا على الجميع. وليس أيضا تقنية بالمرّة في معنى حلول جاهزة للتطبيق. سنكون حينئذ في الانحراف التقنوي للبيداغوجيا  أو للديداكتيك، الذي يختزل الفكر في جملة من آليات تفكير. إنّها إذن تسوية،  إصلاح مرمّق bricolage في دلالة إيجابية تحدّث عنها ليفي شتروس في معنى الجمع بين أشياء غير متجانسة تسمح بحلّ مشكل: تعليم التلاميذ التفلسف. نحن في حالة عجيبة هي تحدّ : تحدّ الفلسفة عند الجميع، في حين أنّها لم تكن أبدا موجّهة إلاّ للنخبة. ترون إذن الرهان المواطني المطروح .

  ب- القضـــايا:

     كيف يمكن التوصّل إلى الفلسفة للجميع؟ نحن في مستوى ديداكتيك تعلّم التفلسف الذي ابتكره المتمرّسون. وسيجدون حلولا في مواجهة مشكلات مستجدّة ، تلمّسا ، و دون معرفة بالكيفية التي مكّنتهم من حلّها. يأتي المختصّ في ديداكتيك تعلّم التفلسف محمّلا بعدد معيّن من الفرضيات. ويكون بذاته قد اشتغل كثيرا. لقد كان متمرّسا كما هو شأني. لقد أصبحت في الجامعة لعامين فحسب. وقد نوقشت أطروحتي بينما كنت في التعليم الثانوي. يقدم هذا المتمرّس اقتراحات يتلقّفها المتمرّسون لتقييمها على أرض الواقع في الأقسام، إذا ما كانت إجرائية أم لا.

      تنمو جدلية بين النظريات غير المتّصلة تماما بالممارسة ومحاولاتها، وهذه التحسّسات هي التي تصنع المتمرّسين، والنتائجَ التي بواسطتها سيجدون أجوبة لوضعيات صعبة. تكون هذه العودة أولا بواسطة المكوّنين الذين سيساعدون المتمرّسين المجدّدين على التعبير عنها. ثمّ بعد ذلك سيمرّ المنظّرون على صعيد البحث من التعبير بالكلمات في مستوى المكوّنين إلى تنظير لما يجده المتمرّس في تطبيقاته. إنّه مفهوم البحث- العمل. على هذا النحو إذن يمكن أن تبنى تدريجيا ديداكتيك تعلّم التفلسف.

    ما هي هذه القضايا؟ لقد كان تمشّينا براجماتيا جدّا. بدأنا أوّلا بمناقشة فلسفية بيننا لما تمثّله الفلسفة. فلم نتّفق فيما تمثّله الفلسفة بين الفلاسفة، بما أنّ التفلسف تحديدا هو التساؤل عن ماهية الفلسفة، وجعل هذا المشكل يرتدّ باستمرار طوال حياته ولأجيال. بينما، وهذا هو ما يثير الدهشة بقوّة، إذا كان الإجماع الفلسفي غير موجود، فإنّ الإجماع الديداكتيكي قد يكون مشتركا. وبعد المناقشة بيننا لساعات وساعات كأساتذة فلسفة فرنسيين في المعهد تعترضهم صعوبات في أقسامهم، مع اعتبار ما هي الفلسفة و فحصها ورهاناتها بالنسبة إلى الباكالوريا، بالنسبة إلى المقال ككتابي، وبالنسبة إلى الشفوي كامتحان تدارك، ماذا ننتظر من التلاميذ، وماذا نريد أن يفعلوا؟ اتفقنا على المقاربة بالكفايات وهو ما قد يبدو لكم مهمّا حاليا. ولا يتعلّق الأمر بمعرفة ما هي الفلسفة، وماذا نريد أن ندرّس، بل – بثورة كوبرنيكية- بالتموقع بجانب التلميذ( ماذا يمكن أن أصنع معهم) وليس بجانب المعلّم ( ماذا يكون قد تعلّم في نهاية السنة؟)

  الجـــــواب:

1- ما نريده – وفق باراديغم إشكالي- هو أن يكون التلميذ قادرا على طرح عدد معيّن من المشكلات. فحينما نطرح عليه سؤالا، نريد أن يطرح على نفسه ذات السؤال، وأن يكون قادرا على إدراكه فلسفيا وفهم رهانه الفلسفي. فيم يطرح هذا السؤال مشكلا من جهة صياغته، أي فيما يعنيني أنا فردا في خصوصيتي، بل أيضا كلّ الإنسان وكل إنسان في كونيته. هي الأشكلة إذن أوّل هدف نواتي، فماذا يعني هذا عمليا؟- ماذا ننتظر من التلميذ، غير أن يكون قادرا على أن يضع ما يفكّر فيه موضع سؤال. الأشكلة هي تغيير تعريف مقولة “الحريّة أن أفعل ما أشاء” أو أطروحة ” الله موجود”. هي إذن القدرة على وضع إقرار موضع سؤال ، سواء أكان مقولة أو بسطا لأطروحة. وحينما نطرح على التلميذ سؤالا، فلا يجب أن يتسرّع، بل عليه أن يعدّد الأجوبة المختلفة، و” أن يساءل السؤال” أي أن يبحث عن استتباعاته، وضمنياته، وما يعنيه السؤال. وهذا مثال مهمّ قد يشتغل عليه مع التلاميذ:”مرض السيدا عقاب سلّطه الإله على المثليين لنمط حياتهم”. يستند هذا الإقرار إلى عدّة ضمنيات: كون الإله موجود، وأنّه يعاقب، وكون السيدا رذيلة وليست مرضا الخ..فالضمنية هي ما يفترضه إقرار. ويجب أن نشتغل على استتباعات الإقرار إمّا في معنى الضمنيات، وإمّا في معنى النتائج.  فمثلا ، إذا ما قلت” الحريّة أن أفعل ما أشاء”، فإذا أكلت الشوكولاطة، أصابني ألم في الكبد: هل هذا حقّا ما أريد، رغبة غير متحكّم فيها تتحوّل إلى ألم؟ أو أن تكون نتيجة هذا التعريف للحريّة، أنّ الآخر يمكن أن يفعل ما يريد: ولكن حينئذ، قد يسرقني ، ويغتصبني ، ويضربني ويسيطر عليّ. يمكن إذن أن تكون الحرية أن أفعل ما أشاء دون إلحاق الضرر بنفسي أو بالآخرين. يمكن أن نشتغل، انطلاقا من هذا مع التلاميذ، وأن نقودهم إلى التفكير في استتباعات تعريفهم الأول لمفهوم وتغيير تمثّلاتهم له. وإذن، أشكلة السؤال، مساءلة السؤال.

         وأخير يجب توضيح المشكل. فلا يكفي طرح سؤال لنتبيّن مباشرة أنّه سؤال فلسفي. حينما نسأل:” ما هو الموت، فيمكن أن أجيب: “توقّف الدماغ عن النشاط”. فقد فهمت السؤال على مستوى علمي: تقدّم البيولوجيا جملة من الأجوبة عن هذا السؤال. ولفهم السؤال فلسفيا،عليّ تقدير رهاناته، بالتساؤل  هل  توجد حياة بعد الموت؛ وهل سيغيّر الجواب في حياتي شيئا، ماذا سيكون سلوكي تجاه الموت، كيف ستكون منزلتي كفرد بالنسبة إلى الموت؛ أو إذا تخليت عن موقفي كفرد، كـ”أنا”، فربّما تغيّرت النظرة إلى الموت، مثل ما يحدث في الحضارات الشرقية. كيف يمكن لهذا السؤال” ما هو الموت؟” أن يصبح فلسفيا؟- إنّه بمساءلة السؤال والتفكير في رهاناته ، لماذا يعني البشر وكل إنسان ويعنيني أنا بالذات في خصوصيتي.  وبالاشتغال على صياغة مشكل قد نصل حتّى إلى تغيير السؤال أو إعادة صياغته.

2- لا نطلب من التلاميذ الأشكلة فحسب ، بل مفهمةconceptualiser  معاني، أي معرفة ما يقولون حينما يتكلّمون. وكيف أن ما نقوله يتنزل في مستوى الخطاب، ومعرفة ماذا يعني أن نتكلّم، هو الولوج إلى اللامفكّر فيه للغة. إنّ المفهمة هي الأداة التي تستخدمها الفلسفة لإمكان التفكير. لأنّ الفلسفة لغة، وهي أولا كلمات.  فالفلسفة هي علاقة  اللغة والفكر. وليس للفلاسفة من وسيلة للفكر غير اللغة الطبيعيّة، وبالنسبة إلينا الفرنسية. بينما للعلماء نظام شفرات قطعي، صياغات جبرية مثلا. وكلّما أكْتشف قانون نمنحه تواطئا بنظام شفرات قطعي E= gt2 ، مفهوم السرعة في الميكانيكا هو  العلاقة بين المكان والزمان وهذه العلاقة رياضيّة. نحن نعلم بشكل تواطئي ودقيق ما هي السرعة كمفهوم علمي داخل نظريّة، النظريّة النيوتونيّة. ويمكن لهذا أن يصبح شيئا آخر في نظرية أخرى. لا يحتمل مفهوم علمي معناه إلاّ داخل حقل صلاحية محدّد (نحن هنا نشتغل بالإبستيمولوجيا). ليس للفيلسوف سوى اللغة الطبيعيّة. وتتمثّل المفهمة في اشتغال الفكر على اللغة. من هنا تأتي أهمية المفهمة: معرفة فيم نتكلّم. إنّ معنى ما notion في لغة هو دوما كلمة غير محدّدة نسبيا. وما يميّز لغة ما هو تعدد دلالاتها. فيمكن لكلمة ” حرية” أن تكون لها معاني عدّة بحسب مدوّنة التطبيق، بحسب المستويات، وبحسب المجالات التي نستخدمها فيها، وبحسب السياق الألسني داخل جملة. فالحديث عن معنى، مضمونه الدلالي غير محدّد ” الحرية”، والوصول إلى مفهوم مضمونه الدلالي سيكون، غير تواطئي- ولن يكون تواطئا أبدا- ولكن دقيقا نسبيا، هو ذا فيم تتمثّل المفهمة. وسيقوم الفلاسفة بتمييزات مفهومية عبر اللغة، أي التفكير من خلال الاختلافات التي يقيمونها بين الكلمات. سيكون التفكير مثلا، هو النظر في الاختلافات التي نقيمها بين ” الفرح واللذة والسعادة”. وسيكون لفعل التمييز أو عدمه نتائج رائعة على الطريقة التي نبني بها العالم. ولنأخذ مثلا كاتبا أحبّه كثيرا، لاكان Lacan فكلّ تفكيره منتظم حول كلمات ثلاث: الواقعي، والرمزي ، والخيالي. وما سيبني تصوّره للفكر والذات هو التمفصل بين هذه الكلمات الثلاث، المُمَفْهمة في فكر لاكان. وترتكز نظرية المعرفة لدى ديكارت على تمفصل وتراتبية بين الطريقة التي بها نعرف، بواسطة الحواس، والخيال والفهم l’entendement. ليس المفهوم مجرّدا بل إجرائيا ،  opératoire وهذا ما يسمح لي بالتفكير في الواقع. فالمفاهيم هي كلمات غير محدّدة نسبيا وتُأخذ من اللغة الطبيعية وهي التي ستصبح أدواتا لبناء الواقع، والعلاقة مع العالم  والآخرين ومع الذات نفسها. من هنا كانت أهميّة معرفة كيف سنساعد التلاميذ على المفهمة بوضع أدوات مفهمة.

     3- وأخيرا النقطة الثالثة والأخيرة، بعد طرح المشكل والتفكير في الكلمات التي تكوّنه، وبعد الأشكلة والمفهمة نطلب من التلاميذ الحجاج  argumenter . لإمكان الإجابة عن السؤال، وجب أن تكون لنا مبرّرات. فإذا كانت الفلسفة، كما يقول كانط، هي الاستخدام للعقل، فلابد، في لحظة ما، أن توجد مشروعية للأقوال المنطوقة. ثمّ إنّه لابدّ أن نفهم جيدا ما يعنيه حجاج فلسفي وفيم هو مختلف عن ضروب أخرى من الحجاج، وعن طرق أخرى في الإثبات مثل البرهنة الرياضية، والتحقق التجريبي، وتقديم مبرّرات وجيهة دون استهداف المستمع الكوني. فالأنا الذي يحاجج إذن، يحاول أن يتخذ له موضعا في مستوى الكوني مع حفاظه على أناه الفردي. إنّ مقولة المستمع الكوني بتحديد بيرلمان ذات أهمية للتفكير في القدرة على الحجاج في الفلسفة.

    إنّنا نقدّم هنا بحديثنا عن الأشكلة والمفهمة والحجاج، قاعدة أساس تسمح لنا بتعريف ما ننتظره من تلامذتنا. وانطلاقا من انبثاق هذه الكفايات المنتظرة، قمنا ببناء ما يمكن أن نسمّيه نموذج ديداكتيك التفلسف، أي ما سيكون عليه تعلّم في مؤسسة مدرسية. إنّه ما يسمّيه الديداكتيون ” التحويل الديداكتيكي”. وما أقترحه عليكم كنموذج ديداكتيكي هو شكل من التحويل الديداكتيكي حينما نمرّ من تخصّص بحث إلى تخصّص مُدَرَّس وبالتالي في متناول التلاميذ. ويتمثل النموذج في تحديد الكفايات على نحو ما تمارس بمحاولة فهم ما هو التفكير : أشكلة ومفهمة وحجاج. وانطلاقا من هذا، قلنا لأنفسنا بانّ هذا بالفعل ما نبحث عنه مع تلامذتنا. ولكنّنا حاولنا أيضا النظر إذا ما كانت المسافة كبيرة بين ما يصنعه الفلاسفة حينما يفكّرون وما ننتظره من التلاميذ حينما نطالبهم بالتفلسف. ذلك أنّنا لا نريد أن نصل إلى نموذج اختزالي يعتبر أنّ التفكير هو جمع مسارات فكر. سنكون هنا ضمن تصوّر للديداكتيك جدّ اختزالي، من نوع سلوكي، ومن نوع مذهب التصرف في علم النفس الذي يردّ المركّب  complexe إلى البسيط بينما لا يمكن أن نختزل إلى البسيط إلا المعقّد compliqué. ومرجعي في هذا ” الفكر المركّب” لإدغار موران. يجب إذن بناء نموذج يكون بقدر الإمكان، الأكثر سيستيمية، أي الذي يدرك وحدة وحركة الفكر.

   والمثلث الديداكتيكي ” أشكلة- مفهمة – حجاج” هو في المكان. بينما الفكر هو بالأساس زمني، وحركة وديالكتيك. يتعلّق الأمر بإدماج الزمان في النموذج. هنا يكون حدّ سيستيمية التفكير في المكان لا في الزمان. إلاّ أنّ النموذج يكون في الزمان ديالكتيكي ومُدِرٍكا لحركة الفكر. من هنا كانت فكرة أنّ كل ّ قدرة لا يمكن لها أن تأخذ معنى إلا في علاقة بالأخريين.  

 أقدّم لكم مثالا ملموسا جدّا:

– حينما أقرّ شيئا، يجب أن أكون بوضوح في اللغة التي تكوّن إقراري، وبالتالي حدّا أدنى من المحتوى الدلالي تحمله الكلمات. وحينما نكون في إقرار نزعم أنّه فلسفي، يجب أن تكون هذه المعاني وهذه الكلمات وهذه الأفكار العامّة قد صارت مفاهيم. لا يمكن لي الإقرار بأطروحة والبدء في الحجاج دون أن أكون قمت بالمفهمة ولو قليلا.

– لكن إذا أردت حقّا معرفة إذا ما كان هذا الإقرار حقيقيا، يجب أن أكون قادرا على الاستدلال عليه، وبالتالي الحجاج عليه والدفاع عنه.

– غير أن هذا الإقرار هو في ذات الوقت جواب عن سؤال؛ ففي الفلسفة، أنا لا أقرّ لمجرد الإقرار، إني أقرّ لأجل الجواب عن سؤال كنت طرحته على نفسي. فلا يمكن إذن لهذا الإقرار أن يأخذ بذاته معنى إلاّ بالنسبة إلى هذا السؤال.

   لإمكان الإقرار أو الحكم وجب أن أحاجج أيضا. ولإمكان الإقرار يجب أن أكون بوضوح على صعيد المعاني التي يحملها هذا الإقرار. ولكن إذا ما أردت الشكّ في إقرار ما وجب أن أحاجج على هذا الشكّ للنظر هل كان حقيقيّا، ويجب حينها أن أحاجج على شكّي. وإذا ما شككت ، أُأَشْكِل بما أنّي أضع الإقرار  موضوع سؤال، الخ. تدركون إذن كيف لا يمكن فهم وحدة وحركة الفكر إلا بوصفها تمفصلَ المفهمة والأشكلة والحجاج. و يجب في نفس الوقت الإقرار بهذه الفكرة، كون الحجاج والمفهمة والأشكلة هي مع ذلك شيء مخصوص. فالحجاج هو إيجاد مبرّرات للدفاع عن أطروحة . والمفهمة هي محاولة تحديد المعنى الفلسفي للكلمات، فالهدف هو التعريف، وليس البرهنة على أطروحة. والأشكلة هي وضع إقرار موضع السؤال. فنحن إذن في التساؤل. والتساؤل والتعريف والتأسيس بإيجاد المبررات، ليس نفس الشيء. لكنّه يتشابك في مستوى وحدة وحركة الفكر.

      لابدّ إذن  تطوير الكفايات المميّزة، حينما نطلب الأهداف المميّزة : الأشكلة والمفهمة والحجاج.  وإذا ما أردنا، في نفس الوقت أن يكون النموذج سيستيمي، وجب القيام بضرب من مجابهة التلميذ بمهامّ جامعة أين توجد وحدة وحركة فكر تنطبق على نفسها وعلى مهامّ خاصّة مثل القراءة و الكتابة والنقاش.

    ” إنّ التفلسف إذن، هو في وحدة وحركة الفكر، انطلاقا من المعاني والأسئلة الأساسية للإنسان بموجب رهاناتها، وطرح مسارات من الأشكلة والمفهمة والحجاج، بالإقامة في فكرنا الخاص”. إنّه لأمر أساسيّ على وجه الإطلاق إذا لم نرد أن نكون في شكلانية من جنس مدرسي. ويمكن أن نصبح سفسطائيين حقيقيين في معنى التحقير، لأنّ الرهان ليس الحقيقة. هذا النموذج مؤقّت. فهو للصقل والتهذيب لملء الفراغ القائم دوما بين واقع الفكر والنمذجة الديداكتيكية التي يمكن القيام بها. غير أنّه إجرائيّ، كما يبدو لي، لأنّه سيسمح من جهة بأن نقترح على التلاميذ، لكلّ واحد أهدافا، وأدوات خاّصة ( عروضا عن الأعمال التي نشرتها) ومن جهة أخرى أن نستخدم بطريقة ممفصلة الأهداف النّواتية الثلاث على مسائل مركّبة هي القراءة والكتابة والنقاش الفلسف                                               

* المصدر :

مداخلة وعرض لميشيل توزي في المؤسسة الكاثوليكية الفرنسية : قسم الإيتيقا.منشورات المعهد ومنقول من المجلة الفرنسية للبيداغوجيا عدد103 ص 93

إغلاق