محور وجود الغير – مفهوم الغير

  • المادة: مادة الفلسفة
  • المجزوءة: مجزوءة الوضع البشري
  • المفهوم: مفهوم الغير

المحور الأول: محور وجود الغير

  • التأطير الإشكالي للمحور:

يطرح مفهوم الغير مجموعة من الإشكالات الفلسفية من بينها الإشكال المرتبط بوجود الغير. فالإنسان يظل في حاجة تحقيق وعي بذاته وإلى إدراك وجوده،  من هنا يتم التساؤل عن مدى أهمية وجود الغير بالنسبة للذات، وإن كان وجوده ضروريا لتحقق الذات وعيها بذاتها ولتدرك وجودها، أم أن وجوده ليس ضروريا، ويبقى مجرد وجود افتراضي. هكذا إذن يمكن أن نتساءل:

هل وجود الغير ضروري بالنسبة للذات؟ وبتعبير آخر، هل وجود الغير ضروري لكي تحقق الذات وعيها بذاتها ولتدرك وجودها، أم أن الذات تستطيع تحقيق كل ذلك دون حاجة إلى الغير؟ ألا يمكن القول أن وجود الغير يبقى مجرد افتراضي قابل للشك؟

  • موقف الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت

يرى الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت، رائد الفلسفة العقلانية، أن وجود الغير مجرد وجود افتراضي، ولا حاجة إليه لتدرك الذات وجودها ولتعي ذاتها. ولتوضيح موقفه يمكن أن ننطلق من الكوجيطو: “أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود”. فمن خلال هذه العبارة يتضح أن وجود الذات من المنظور الديكارتي  مرتبط بعملية التفكير وبالعقل الذي يعتبر نورا فطريا، أما وجود الغير فليس أساسيا ولا ضروريا لكي تحقق الذات وجودها ولتعي ذاتها.

إضافة إلى ذلك يرى روني ديكارت أن وجود الغير يبقى مجرد وجود افتراضي قابل للشك، لأن الحقيقة الوحيدة التي يمكن إثباتها هي حقيقة الذات المفكرة. وفي هذا السياق يقول ديكارت: “نعم أرى أجسادا تتحرك أمامي وتتحدث، ولكن بأي حق وانطلاقا من أي دليل أستطيع أن أتيقن من كون هاته الأجساد ذواتا واعية”.

  • أهمية وحدود الموقف

تتجلى أهمية موقف ديكارت في انتصاره للذات، والنظر إليها باعتبارها ذات مفكرة وعاقلة، وأيضا باعتبارها ذات مستقلة. لكن يمكن أن ننتقد  موقف رونيه ديكارت في نفيه التام لأهمية وجود الغير، الذي له دور في تشكيل الوجود الإنساني، وفي وعي الذات لذاتها. كما أن القول بالاستقلالية التامة للذات، قد يخلق نوعا من الفردانية والانعزالية، وهو ما انتبه إليه جورج غوسدورف (انظر درس قيمة الشخص). ويمكن في هذا الإطار الوقوف عند موقف جان بول ساتر.

  • موقف الفيلسوف الفرنسي جان بول ساتر

على خلاف رونيه ديكارت، يؤكد الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أن وجود الغير ضروري بالنسبة للذات، وتكمن أهميته في تمكين الذات من إدراك كل بنيات وجودها، كما أنه يلعب دور الوسيط بين الذات وذاتها، وهنا يقول جان بول سارتر: “الغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني أنا وبين نفسي”. ومضمون هذا القول أن الغير يمثل رابط ضروريا لا يمكن الاستغناء عنه بين الذات وذاتها، فمن خلال الغير يمكن أن أصدر حكما على نفسي كما أصدره على موضوع ما، وفي هذا السياق يقول سارتر: “بظهور الغير أصبح في مقدوري أن أصدر حكما على نفسي كما أصدره على موضوع ما“.

لكن، لوجود الغير حسب سارتر وجه سلبي، فهو يسلب الذات حريتها وعفويتها من خلال النظرة التشييئية، وهنا نفهم قول سارتر في مسرحيته جلسة مغلقة: “الجحيم هو الآخرون”.

نفس موقف سارتر يتبناه الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، والذي يرى أن وجود الغير ضروري حتى تحقق الذات وعيها واعترافها بذاتها. ففي غياب الغير يبقى وجود الذات مجرد وجود بسيط مثل وجود الأشياء الفاقدة للوعي، لكن بوجود الغير أصبح بإمكان الذات نزع الاعتراف من الغير باعتباره ذاتا واعية. لكن تحقيق الاعتراف بالذات حسب هيغل لا يتحقق إلا من خلال عملية الصراع.

  • أهمية وحدود الموقف

تتجلى أهمية الموقف في نقده للمواقف التي قللت من شأن الغير، واعتبرته وجودا غير ضروري. كما تتجلى أهميته في تأكيده على الدور الإيجابي الذي يلعبه الغير بالنسبة للذات، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نختلف فيه، فالذات تظل في حاجة دائمة إلى الغير لتحقق وعيها بذاتها، فهو بمثابة تلك المرآة التي تنعكس عليها أفعالنا وأحوالنا، هل كنا سندرك أننا فعلنا خيرا أو شرا لولا وجود الغير؟ طبعا لا. كما أن وجود الغير يسمح لنا بتحقيق الاعتراف بذواتنا، والدليل على ذلك أن الشخص حين يكون في لحظة فرح وسرور، وأو حين يحقق إنجازا ونجاحا، فهو يبحث عن شخص آخر ليقاسمه الفرحة والسرور، وليعترف له لما أنجز وحقق، ولولاه لما كان لما نفعله أو نحققه أية قيمة.

لكن القول بالضرورة المطلقة لوجود الغير يسلب الذات استقلالها، وهو ما يمنكن أن ننتقد فيه الموقف السابق (موقف سارتر وهيغل). كما أن الموقف جعل من العلاقة بين الذات والغير علاقة سلبية قائمة على التشييء والصراع.

  • خلاصة تركيبية للمحور:

نستنتج من خلال ما سبق أن وجود الغير يبقى وجودا ضروريا حتى تحقق الذات وعيها بذاتها وتدرك وجودها، وهو ما عبر عنه مجموعة من الفلاسفة أمثال هيغل وسارتر، لكن الذات يمكنها الاستقلال عن الغير ولو بشكل نسبي، نظرا لما تتمتع به قدرات عقلية، تمكنها من الاستغناء عن الغير، وهو ما أكد عليه ديكارت الذي اعتبر العقل نورا فطريا، إلا أن وجود الغير قد يسبنا حرتنا ويحرمنا استقلالنا. ومن هنا نستنج أن وجود الغير يبقى وجودا ذو بعدين، البعد الأول بعد إيجابي فهو يمكننا من وعي ذواتنا وإدراك وجودنا، والبعد الثاني بعد سلبي، لأنه يسلبنا حريتنا ويهدد كياننا وخصوصيتنا. وهنا يمكن أن نختم بقول الكاتب الفرنسي هنري دي بلزاك :“العزلة أمر جيد، ولكنك تحتاج شخصا لتخبره أن العزلة أمر جيد”.

إغلاق