آلان والتربية : التربية على التفكير النقدي وسلطة المعلم” عبد الوهاب البراهمـي

إيميل شارتييه (آلان) والتربية: التربية على الّتفكير النّقدي وسلطة المعلّم

عبد الوهاب البراهمـي/ متفقد عام للتربية اختصاص فلسفة  – تونس

    حينما تريد أن تستمع لحديث عن التربية “فلا ينبئك مثل خبير”. فلحديث المربي عن التربية وقع خاص لا نلمسه عند ” عالم التربية ” مثلا. وانظر إذا ما كان المربّي فيلسوفا، فما عساه يكون الحديث، حينما يجتمع التأمّل الرصين بثقل التجربة؟ كثير من الفلاسفة امتهنوا التربية وكانوا فلاسفة- مدرّسين. أفلاطون ومن بعده أرسطو وغيرهما كثير كانط وهيجل وآلان… حتى بلغنا اليوم “عصر الفيلسوف الموظّف” بعبارة مارلوبنتي، الفيلسوف مدرّسا في الجامعة. وكثير من الفلاسفة أيضا من امتنع عن التدريس ( ديكارت وسبينوزا وآخرون). وإذا كان لبعض الفلاسفة، ممن اختار أن يقرن اشتغاله بالفلسفة بممارسة التدريس، شأنه العظيم كفيلسوف أكثر من شأنه مدرسا، مثل هيجل الذي لم يفهم تلاميذه دروسه جيدا فاضطر إلى كتابة “موسوعة العلوم الفلسفية” لييسّر على طلابه فهم أفكاره. وكان كانط المدرس أقلّ شأنا من كانط الفيسلوف، فإنّ لآخرين من هؤلاء الفلاسفة المدرسين من شاع صيته كمدرس وملأ الدنيا وشغل الناس بدروسه ربّما أكثر ممّا بلغته كتاباته الفلسفية على الرغم من كثرتها. ومن هؤلاء بالتأكيد الفيلسوف – المدرس أو المعلّم – الفيلسوف “إيميل شارتييه”، المعروف بكنية “آلان”، فيلسوف فرنسي ((1951-1868 تحدّث عن التربية والتعليم شأن غيره من الفلاسفة، غير أنّ لحديثه عنها مذاق خاص وأثر على النفس لا مثيل له. فبخلاف الفلاسفة الذين تحدثوا عن التربية وقدموا نظريات بشأنها، والذين قلما ربطوا هذه النظريات بتراكم خبري حصّلوه، نجد آلان لايفوّت فرصة الحديث عن مسائل التربية ومشكلاتها إلا وأحال إلى تجربته الخاصّة كمدرّس بل أحيانا كتلميذ لا رغبة في الإقناع فحسب، بل لقناعة خاصّة أدركها باشتغاله بالتدريس وانتباهه الحادّ إلى هذه الممارسة منذ كان تلميذا على مقاعد الدراسة كما يقول. نلمس هذا في أهمّ ما كتب  آلان عن التربية، أعني كتابه المميّز شكلا ومضمونا ” أقوال في التربية”(1)، كتابا ربما لا يقرأ كثيرا ولا يذكر إلا لماما بيد أنّه من أهمّ ما كتب عن التربية . أقول كتابا مميزا شكلا، وأعني في طريقة كتابته، على طريقة أقوال، نصوص أو مقالات تبدو في ظاهرها منفصلة ولكنّها مترابطة تحكمها فكرة ناظمة؛ طريقة في كتابة النص الفلسفي ميزت “آلان” إلى جانب أسلوبه في الكتابة “أسلوب الإيجاز والصياغة الواضحة “، فضلا عن طرافة وفرادة في الأفكار جمعت بين العمق والوضوح. 

 

  يبسط آلان في كتابه ” أقوال في التربية”، آراءه في التربية استنادا لا إلى خبرته كمدرس فحسب، بل إلى تصوّره للفلسفة وغايتها القصوى بما هي بناء ” مذهب نقدي ” ، أساسه حرية الفكر في الحكم، على ذاته وعلى الأشياء؛ الأمر الذي يجعله غير بعيد عن كانط من جهة ” إرجاع الفلسفة إلى أساسها النقدي “، فلسفة نقدية قوامها الاستخدام الحرّ للعقل. غير أنّ هذا الاستخدام الحر للعقل أو لملكة الحكم لا يقوم على أساس نظري أو على فعل التأمل (شأن ما يذهب إليه ديكارت مثلا)، بل على صلة بالواقع وبالعالم ، أي على الفعل وإرادة الإنسان بما هو قدرة أو ” قوّة” بمستطاعها ” التحكّم” وسياسة ” ذاتها ” و” العالم”. يلتقي هذا مع تصوّر آلان للتربية وغايتها القصوى بوصفها ” الحكم على القيم” و” إنقاذ المرء في ذاته، جانبا من الحكم الحرّ، جانبا لا يقهر”أي أن يسوس المرء نفسه باستخدامه الحر لعقله أو لملكة الحكم لديه، في حكمه على ذاته وعلى الأشياء. إنّ هذا التقاء للفلسفة بالتربية في الغاية والموضوع والاهتمام، يجعل من الفلسفة عند آلان تربية على التفكير النقدي بل ويجعل الفلسفة لديه متمركزة في نظريته في التربية، لتكون فلسفة نقدية للتربية، مدار اهتمامها الإنسان ككائن، إذ ” توجد الإنسانية، والإنسانية واقع”. وتّتجه هذه الفلسفة النقدية للتربية إلى الكوني ، إلى الإنساني . 

 وإذا كان كانط قد ردّ سائر أسئلة الفلسفة إلى سؤال مركزي جامع هو السؤال عن الإنسان، فإنّ آلان قد ردّ السؤال الأنتروبولوجي :” ما الإنسان؟” ليصبح تساؤلا عمّا “يريد الإنسان”. ذلك أنّ الإنسان لا يكون كذلك إلاّ إذا أراد. فهو “صانع نفسه” ومن هنا فهو ” تربية” أو بعبارة كانط ” إنشاء تربوي”. ولكن كيف يكون الإنسان ما يريده وهو الذي بدأ طفلا، كائنا قاصرا يحتاج إلى عون الآخرين؟  كيف يمكن للتربية أن تنشأ كائنا حرا في الحكم والرأي؟ أليست التربية تشريطا وتهذيبا وتعويدا، وبالتالي تحكّم في الطفل وتدبير لشؤونه بوصفه قاصرا؟ أيّ تربية تكون، تلك التي يكون بها الإنسان قادرا على التفكير النقدي والاستخدام الحر للعقل في ذات الوقت الذي يحترم فيه “سلطة” المربّي أو المعلم؟ ضمن أي تصوّر للتربية يمكن الجمع بين التربية وسياسة الفرد وقيادته، بين السلطة والحريّة؟ هل من تناقض بين سياسة الفرد واستخدامه الحر لفكره؟

    يكشف آلان في كتابه” أقوال في التربية” عن آراءه في التربية بوضوح شديد وبتناسق ضمن نظريّة للتربية توصف بكونها فلسفة نقدية للتربية؛ نظرية  تفصح عن تمايز شديد مع آراء البيداغوجيين ولكنها لا تخفي تأثرها بفلسفات التربية لدى أفلاطون وأرسطو وكانط وخاصّة “جيل لانيو” أستاذه ومثله الأعلى. ما تزال آراء آلان في التربية  محافظة على تأثيرها إلى اليوم بحكم بعدها الكوني الإنساني وبما تكشفه من راهنيّة، تجعلها عند البعض حاضرة في صلب النقاش الدائر راهنا حول المدرسة ودورها وعلاقتها بالتربية. ولأنّ كتاب ” أقوال في التربية ” وهو من أهمّ ما كتب آلان (حيث تقيم نظريته في التربية ، بل فلسفته )، كتاب لا يقرأ كثيرا اليوم بل ربّما لا يعرفه الكثير وخاصّة من قرّاء العربية، فإنّي سأفسح المجال قدر الإمكان لآلان ليتحدث عبر ” أقواله” في هذا المؤلف، من خلال شواهد نصيّة عديدة اجتهدت في ترجمتهاّ، اقترحها نافذة للتعرّف على أفكار هذا الفيلسوف في سياق معالجتنا للمسألة المطروحة. لذا قد يكون من الضروري بسط أهمّ هذه الآراء التربويّة، انطلاقا من كتاب ” أقوال في التربية”. يكشف هذا الكتاب عن مسلّمة أساسية تفصح عن هذه النزعة الإنسانية لفلسفته النقدية للتربية وهي ” تساوي العقول” égalité des intelligences، مذكّرا بالمسلمة الديكارتية ” العقل أعدل الأشياء توزيعا بين الناس” مع تأويل آلان لها تاويلا خصّا بأنّ “ديكارت قد وضّح في التأمّلات بأن الحكم شأن الإرادة لا الفهم” ؛ تبني هذه مسلّمة الأساس ” الإيتيقي والسياسي” للتربية وتؤدّي إلى جملة من النتائج في شأن العلاقة التربوية بين المعلم والتلميذ وترسم حدودا للفعل التربوي، حدودا إيتيقيّة وسياسيّة. فلا يحقّ للمعلّم مثلا الحكم على الطبائع، وتقريع المتعلّم بأحكام من قبيل أنّ” هذا بليد الذهن والآخر كسول ” ولا يستقيم حاله إلى الأبد” فهذا الضرب من الحكم ، وبعبارات آلان، قد ” يردّ هكذا التلميذ إلى جنس البهائم دون التمكّن من استخدام كل يملكه من فكر وبعث الحياة فيما جمد فيه”. وبحكم تساوي العقول ” فكلّ إنسان غنيّ جدّا” بما يملكه من إمكانات وقدرات، ربما لا نعرف منها إلا القليل، فقط حينما تتاح لنا إمكانية ذلك، بإخراجها إلى حيّز الوجود ، ومجال التربية والتعليم مناسبة متفرّدة لهذا. أمّا فيما يعرض للإنسان من أخطاء وتعثّرات فليس مردّه نقص في العقل، وإنما نقص في الإرادة وغلبة للأهواء والانفعالات لاغير. إذ “الجميع أذكياء متى أرادوا” ولا وجود لمن لا يفهم أبدا وهو سليم العقل،” فكلّ فكر هو على وشك أن يفهم” . وعلى هذا الأساس لزم أن تتجه عناية المعلّم إلى من لا يريد أن يتعلّم أو من كانت له صعوبة ما في التعلّم. ففي هذا المستوى بالذات سنكتشف ثراء ” الإنسانية”. “. ولأنّ الجميع متساوون في العقل و أذكياء إن أرادوا فالتعليم حق للجميع لايجب أن يستأثر به البعض. وهنا يفصح آلان عن موقف سياسي، عن “ديمقراطية التعليم” ، عن تحدّ مساواتي ، فيقول:” حينما يكون عبدا مثل إيزوب” فما يزال يفكّر” ويضيف:” أين نحن سائرون…إذا بنى الفقراء خطاباتهم وفق الحقيقة لا  الأدب؟” سؤالا يجيب عنه بما يلي:” سيسير هذا العالم كما كان دوما يسير، إذا ما استأثر بكنز البشرية أولئك الذين هم أحقّ به. وعلى العكس، إذا ما أقبلنا على تعليم الجاهل فسنرى حينها الجديد”.

  أما من أقبل على التعلّم، أو اقتيد إليه، فللمعلّم معه شأن خاصّ، يجدر بنا تفصيل القول فيه قليلا. أولا من جهة صورة المعلّم ومهمّته. وفي هذا لزم أن نشير إلى أنّ آلان يسلّم “ببداهة المعلّم”، بمعنى ضرورة المعلّم للتعلّم .ذلك أنّه ” إذا ما عملنا دون معلّم، تنتهي محاولاتنا تحديدا في اللحظة التي يلزم أن يبدأ فيها العمل”. وهذا يعني أنّ التعلم عمل ( يتحدّث آلان عن مهنة التلميذ، مهنة كسائر المهن) يقتضي ضرورة معلّما مثلما يقتضيه اكتساب صنعة معلّما. غير أنّه، ولمّا كان التعلم يقتضي معلّما، كان المعلّم بالضرورة “سلطة” في معنى سيادة على المتعلّم وقدرة أو قوّة قائمة بذاتها تمارس على المتعلّم ضربا من الإلزام والفرض. وموجب سلطة المعلّم يعود إلى اعتبار” الإنسان حيوان(…) فيه قوّة منضبطة، ولكنّها تظلّ دوما قوّة.” و”أنّ الإنسان حيوان ذي أنفة وصعب المراس. وفوق هذا، فالطفل إنسان أكثر من الإنسان.” من هنا كانت سلطة المعلّم ضرورية “لسياسة الصبيان”، أي لتدبير شؤونهم وبالذات تعليمهم وتربيتهم. وتبرّر الحاجة إلى “سلطة المعلّم” أيضا بقصور المتعلّم وحاجته إلى المعونة. يقول آلان متحدّثا عن “صورة ” الطفل المتعلّم لديه :” . أريد أن يشعر أنّه جدّ جاهل، بعيدا جدّا، في الأسفل بكثير، طفل جدّ صغير بالنسبة إلى نفسه؛ وأنّه يستعين بالنظام البشري؛ وأنّه يعدّ نفسه للاحترام، إذ بالاحترام يكون المرء كبيرا لا صغيرا. وليتخيّل طموحا كبيرا، وتصميما شديدا بتواضع شديد. ولينضبط وليصنع نفسه، بالجهد دوما وفي ارتقاء دائم. أن يتعلّم الأشياء السهلة بصعوبة. وأن يقفز و يصيح بعد ذلك بحسب الطبيعة الحيوانيّة”. يكشف هذا عن منزلة للطفل بوصفه ” إنسانا صغيرا” كامل الإنسانية مع فارق هو السنّ لا غير. وعلى هذا الأساس يقوم التعامل معه تربويّا. ويظهر المعلّم إذن على “صورة” الحاكم. غير أنّ مهمّته “كحاكم” لا تعني التسلّط على المتعلمين، وإجبارهم على الخضوع لإرادته المطلقة، فلا يغنم من هذا أحد، وخاصّة المتعلّم.فلا يجب” كبح صغار البشر أبدا”.فليست التربية عند آلان “تعويدا” ولا تشريطا إذ يقول:” لا يتعلّق الأمر إذن،  بالمرّة بتطويع صغار البشر، حينما يكون من أجل مصلحتهم(…) وليس في نيّتي تعويد الإنسان على الضجيج المفاجئ، مثلما نفعل مع خيول الحراسة. وباختصار يبدو لي أنّ كلّ ما هو تعوّد، غير إنسانيّ. وبتعبير آخر، يبدو لي أنّ التجربة التي تثير الاهتمام قاتلة للفكر.” ويضيف:” أعرف كيف تُدرّب الكلاب، وأنّ أفضل تدريب يجعلها تبدو كلابا أكثر من أيّ وقت آخر. كلما تحكّمنا فيها أفضل، صارت كلابا أكثر”.



  إنّ مهمّة المعلم بوصفه “حاكما” هي أن يقود حكمه للتلاميذ إلى حكم التلاميذ لأنفسهم، بمعنى ” أن يضع بين أيديهم تعلّمهم الخاص، وهو ما يعني شحذ همهم. إذ لا توجد البتّة قيمة إنسانية غير هذه”.إذ أنّه ” يجب أن يتعرّف الطفل على قدرته على التحكّم في نفسه، وبدرجة أولى أن لا يعتقد نفسه أبدا؛ يجب أن يكون له أيضا شعور بأن هذا الاشتغال عل ذاته صعب وجميل.”وأنّ نجاح المعلم في قيادته ليس تحصيل تلامذة ” طيعين خاضعين بل” تمام المهارة في الاختبار تدريجيّا وفي تقدير الجهود؛ إذ أن أعظم شأن هو أن نمنح الطفل فكرة راقية عن مستطاعه، وأن نسنده بانتصاراته “. يبدو أنّ المعلم هنا بالأساس خبير لا في تلقين المعارف بل خبير في الإنفعالات ” شحذ الهمم ، وتقدير الجهود ، وتقدير اٍرادة المتعلّم وتوجيهها حتى يتمكّن من اكتشاف قدرته على التحكّم في انفعالاته..” وإذا كان له أن يستخدم “قوّته” أو “سلطته “، فبغرض فرض الانضباط وتجنب الفوضى، أي ضمان مناخ ملائم للتعلّم. من هنا فالمعلّم حسب “آلان “صامت” ، إذ أسوء ما يكون ” فكرة الكلام أمام مستمعين بغرض التعليم”، إذ التعليم يكون بالعمل لا بالاستماع . ثمّ  إن المعلّم، ولكونه معلما فلابد أن يكون سيّدا على نفسه، عارفا بالتأكيد، قادرا على أن يسوس التلاميذ في حدّ أدنى : أن يراقبهم ويسهر على الانضباط ويصلح انتباههم إلى الدرس ويوجّههم ويقودهم تدريجيا إلى اكتساب القدرة على التفكير بأنفسهم والتحكّم فيها، في انفعالاتهم خاصّة. بيّن من هذا أنّ المعلّم مرافق للتلميذ موجّه له بل صديق. ولا تقوم سيادته أو حكمه وسياسته التلاميذ على ما يقدمه من محتوى بل على الشكل والأسلوب الذي يتوخّاه في ممارسة دوره.

 ولكن ماذا بشأن المعلّم وطريقته في تعليم الأطفال:هل عليه أن يقدم لهم معارف وأن يدرّبهم ويطوّعهم ويهذّب سلوكهم؟ وهل عليه استخدام الشدّة أم توّخي اللين والرفق؟ هل عليه أن يرغّبهم في الدرس أم يلزمهم به إلزاما؟

يقرّ آلان أن المعلمّ وإن كان عارفا بالضرورة فليس له أن يقدّم للتلاميذ معارف جاهزة، ولا أن يخرجهم من الظلمات إلى النور. إذ يقول:” لا أريد إذن أن نعطي الجوز مقشّرا، خاصّة للأطفال الذين لهم قدرا كبيرا من النّضارة والقوّة وحبّ الإطلاع الشّره. فتمام المهارة في التعليم هو أن نحصُل، بالعكس، على الطفل الذي يبذل جهدا ويرتقي إلى حال الرّاشد. لا يعوزنا هنا الطموح؛ فالطموح نابض فكر الطفل”. بهذا المعنى ليس المعلّم مصدرا للمعرفة بل هو مساعد على تحصيل التلاميذ لها. لا من خلال متون مدرسية معدّة للغرض بل من خلال ما يقرؤون من ” كتب”. ذلك أنّ الطريق إلى المعرفة والثقافة حسب آلان هو” القراءة”، وانّ الكتاب هو الوسيط الأساسي لتحصيلها. يقول آلان: إنّ القراءة هي الطقس الحقيقيّ، وهو ما تنبّهنا إليه كلمة ثقافة. يهيّئنا الرأي والمثال وإشاعة المجد كما يجب. ولكن تهيئة الجمال أفضل. لأجل ذلك أجدني أبعد ما يكون عن الاعتقاد بلزوم فهم الطفل لكلّ ما يقرأ أو يحفظ. خذوا لافونتان مثالا ، نعم، بدل فلوريون، خذوا كورناي ، راسين وفينيي وهيجو”. ويضيف :”   كيف نتعلمّ لغة ما؟ من خلال مؤلّفين كبار، لا بخلافه. من خلال جمل أكثر اختصارا وأكثر ثراء وعمقا، لا من خلال غباوة كتاب موجز عن المحادثة. التعلّم أوّلا ثمّ فتح كلّ هذه الكنوز، كلّ هذه الجواهر ثلاثيّة السرّ. لا أرى كيف يمكن للطفل أن يرتقي دون إعجاب و إجلال”. من هنا فدور المعلم حسب آلان في التعليم هو أن يترك التلاميذ يعملون .إذ لا تعلم دون عمل، يطلبه التلميذ بنفسه، وعلى المعلّم أن يساعده على ذلك وهذا أهمّ عمله.” فتمام المهارة في التعليم هو أن نحصُل، بالعكس، على الطفل الذي يبذل جهدا ويرتقي إلى حال الرّاشد”. فالتعلّم بهذا المعنى جهد ذاتي يبذله المتعلم بمساعدة المعلّم، والسبيل الوحيد لصنع ذات المتعلّم. يبيّن هذا رفض آلان لما يسمّى “بالبيداغوجيا الحيّة” التي يؤكّد عليها البيداغوجيون والتي تعتمد على المتون المدرسية . ويستبدلها بأسلوب ” بيداغوجي” متقشف عار من كل زينة يركّز على عمل التلميذ ذاته ( كتابة قراءة حساب رسم الخ أي تمارين وتكرارها…) وهو بهذا يرفض فكرة التعلم عبر ” الدرس ” la lecon، لأنّ الدرس المعد مسبقا يمنع عن التعلّم حقا ولا يربّي على التفكير النقدي الحر. ومن هنا كان دور المعلّم،لا أن يفسّر المتن المدرسي ولا أن يأمر بالحفظ واستعراض ما حفظ، بل إن دوره أن يحث المتعلم على العمل ويصرفه عمّا دونه باستخدام الشدّة إن لزم الأمر. ” إذ يجب أن يتجه الاهتمام إلى العمل. أن يقرأ الطفل أو أن يكتب أو يحسب، فمجرّد هذا العمل، هو عالمه الصغير الخاص، الذي يجب أن يكفيه. وكلّ هذا الضّجر، هنا حوله، وهذا الفراغ بلا عمق، هو أشبه بدرس فصيح؛ إذ لا يهمّك إلا شيء واحد أيّها الطفل الصغير، هو ما تفعل. فإذا أحسنت العمل أو أسأته، فهذا ما ستعرفه لاحقا؛ لكن أفعل ما أنت فاعله”. نتبيّن إذا أن فعل التعلّم ليس سوى “مرورا“من حال القصور إلى حال الرشد” أو بعبارة آلان:” من اللعب إلى العمل”، إذ بالعمل يكبر الطفل لا باللعب ” لابد أيضا أن يشعر الطفل بأنّه يكبر، حينما يمرّ من اللعب إلى العمل. أريد من هذا المرور الجميل، والذي هو أبعد من أن يجعل الطفل بليد الإحساس، أن يكون موسوما واحتفاليا”. ولكن لماذا على التلميذ أن يبذل جهدا في التعلّم؟ لأنّ التعلّم مسار شاقّ يقتضي بذل جهد ثمّ لأنّ للطفل صعوبات عليه تجاوزها بهذا الجهد الذاتي. ويقرّ آلان في هذا المستوى بأنّ الإنسان عموما ليس معطى بل هو بناء “يتشكّل بالمشقّة” …و”عليه الفوز بلذّاته الحقيقيّة، وعليه أن يستحقّها.عليه أن يقدّم العطاء على الأخذ. إنّه القانون”. وأنّ السؤال المركزي الذي علينا طرحه هو ” ماذا يريد الإنسان؟” “والطفل إنسان أكثر من الإنسان”؟، سؤالا جوابه بالتأكيد عند آلان، هو إنّما ” يطلب الصّعب لا الممتع، وإذا لم يقدر على الاحتفاظ بهذا التصّرف الراشد، فإنّه يريد أن نعينه عليه. إنّه يستعجل لذّات أخرى غير التي تنساب بين شفتيه، يريد أوّلا أن يرتقي إلى أن يدرك مشهدا آخر للذّات؛ إنّه يريد في الأخير أن نرفعه، وهذه كلمة جميلة جدّا.” ذلك أن للجهد لذّته الخاصّة حينما نبلغ به ما نريد نحن. و” ما من تجربة أرقى للإنسان من اكتشاف لذّة رفيعة، ما كان له أبد أن يعرفها، لو لم يلق أوّلا شيئا من العناء في طلبها”وأّن ” المشكلات الدقيقة جدّا تهبنا أيضا لذّة أكثر حّدة. هكذا تكون لذّة قراءة عمل على البيانو فهي لن تكون مؤثّرة منذ الدروس الأولى؛ لابدّ أن نعرف الملل أوّلا”. من هنا يقر آلان أن التعلّم يقتضي  مبدأ الشدة ، مبدأ يلح عليه شرطا لتحقيق الهدف من التعلّم . ذلك أن التعلم عمل جدّي، يجب أن نفصله عن اللعب والتسلية بوضوح. ولذا يرفض آلان رأي البيداغوجيين في جعل اللعب وسيلة للتعلّم؛ مقرّا بسفاهة هذا الرأي واصفا البيداغويون بالجهل بطبيعة الانسان عموما والطفل خصوصا فيقول:” البيداغوجيون هم أطفال وُدعاء؛ لا يعرفون قدرة الأهواء”ويضيف: “لا أؤمن كثيرا بهذه الدروس المسليّة التي هي أشبه بتتمّة ألعاب. إنّها أحلام يقظة لأناس طيبون لم يتعلّموا المهنة. يقينا، من الأفضل أن نستشفّ الأسباب؛ لكنّ المهنة تعلّم بأشدّ قسوة وخشونة. يشير الجرس أو الصفّارة إلى نهاية وقت الألعاب والعودة إلى نظام أكثر صرامة؛ والتجربة تخبرنا أنّه لا يجب مطلقا أن يحدث المرور دون التفطّن له، بل على العكس يترك التحوّل الكلي أثرا بالغا في مظاهره. ترتفع اليقظة درجة؛ فهي لا تبحث إذن عن لذّة تلعقها، مثلما تفعل الكلاب؛ فما هي بشراهة، بل هي حرمان وصبر وانتظار يرقب من فوق ذاته. إنّ يقظة الكلب ليس اليقظة”.ويقول:” لا أثق كثيرا في حدائق الأطفال هذه وغيرها من الابتكارات التي بواسطتها يراد تعليم الأطفال وهم يلعبون. فالطريقة غير ممتازة بعدُ للبشر.”ذلك أنّ جدية التعلّم لا تتلاءم مع عنصر الهزل والتسلية الذي قد يحطّ من قيمة الفعل التعلمي، وقيمة المتعلّم . وهنا يظهر “آلان” صارما في قوله لا يتردّد في رفض هذا المنحى البيداغوجي فيقول ساخرا:”  إنّ مهنة المسلّي مرغوب فيها وعالية الأجر، وهي في الأصل، مستهجنة في الخفاء” ويضيف :”حينما يقول أحدهم، مردّدا قول كثيرين، بأنّه لابدّ من نيل إعجاب الأطفال، وأنّ ذلك هو الوسيلة الحقيقية لتعليمهم، فلا نهتمّ لقوله. لكنّني لا أحبّ كثيرا هذا الحديث العاطفي ولا هذا المعلّم المُمَالق.” وإذا كان التوسّل باللعب لدى البيداغوجيين أدة للتحفيز وخلق الدافعية ، فإنّ آلان يرى أنه ما من حاجة لذلك وأنّ الطفل لا ينقصه الطموح بقدر ما تنقصه القدرة على تحقيقه، أي نقص الإرادة. فيقول:” . لا يعوزنا هنا الطموح؛ فالطموح نابض فكر الطفل. إنّ الطفولة حالة مفارقة نحسّ فيها أنّنا لن نبقى؛ فالنموّ يسرّع قهريّا حركة تجاوز الذات هذه، والتي، فيما بعد لن تتباطأ إلا كثير”ا. ومن هنا لزم أن نساعد الطفل على أن يمرّ إلى حالة الرشد ولن يكون ذلك بتعليمه وهو يلعب. يقول آلان:” . لم يكن دوما تعليم الأطفال وهم يلعبون شيئا آخر غير أن نضرب بالنظام عرض الحائط.”ويضيف في شأن اقتران اللعب بالدراسة : ” أودّ أن يوجد ما يشبه الهوّة بين اللّعب والدراسة. ماذا يعني؟ تعلّم القراءة والكتابة بواسطة لعبة الحروف؟ تعلّم الحساب بواسطة حبّات البندق، بمثل ما يفعل القرد؟”ويضيف : ” لأجل ذلك أزدري حتّى اللغة المنمّقة، طريقة في تيسير الانتباه. وليس على الطفل أن يكون قادرا على التغلّب على الملل والتجريد فحسب؛ بل لابدّ أن يعرف أيضا أنّه عليه قادر؛ هذا ما يلزم التشديد عليه، وليس لنا إلاّ أن نطبّق على ثقافة الفكر المبادئ التي لا يمكن لنا نسيانها حينما نعلّم رياضة الجمباز. اختبروا هذا المنهج الصارم، وسترون فورا طموحا حسنا، طموح فكر لا يملكه الكلاب.”نتبيّن من هذا إصرار آلان على مبدأ الشدّة والانضباط والصرامة في التعلّم فمنها كما يقول ” تبدأ العظمة”. أمّا طلب التيسير بدعوى الترفق بالتلميذ أو ترغيبه في الدرس ،فإنه طريق إلى التكاسل والتواكل فضلا عن جهل بطبيعة الطفل وأن الطفل يرغب في ” الصعب” ويرغب أن يدرك “الرشد” أو يكبر ويقبل أن يعامل حتى بقسوة حينما يتعلق الأمر بمصلحته:” سيحفظ الطفل جميلكم بأن أرغمتموه على ذلك؛ وسيحتقركم إن مدحتموه. إنّ المبتدأ أفضل نظام؛ يشهد بالجديّة في العمل؛ يكون أفضل تكوينا من جهة الطبع لا من جهة الفكر، فقط بواسطة ضرورات العمل بالذات. فإذا علّمناه التّفكير بمثل ما نعلّمه اللّحام، فسنعرف الشّعب الملك”. إنّ أسلوب الشدة في التربية والتعلم مطلوب إذا كان الغرض الارتقاء بالفرد إلى ” حالة الرشدّ بعبارة كانط  . يتساؤل آلان إن كانت الشدّة تخلف الوهن والقصور. ” لكن أليس هذا شديدا بالنسبة إلى الطفل؟ أقسم أني أرجو ذلك. سيكون في الأول مأخوذا بالتناسق. أن يسمع في نفسه الأشياء الجميلة، مثل الموسيقى، إنّه التأمّل الأوّل. ازرعوا بذورا حقيقيّة، لا رملا. وليشاهدوا رسوم دافنشي وميكائيل- أنج ورافاييل؛ وليستمعوا في مهدهم إلى بيتهوفن.”غير أنّ لزوم الشدة في التعلّم لا يعني ضرب الطفل إلاّ إذا كان ضربه من أجل فرض الانضباط وردّه إلى الدرس يقول آلان:”  ليس لكوني مع الضرب بالعصا” ويضيف:”  لنحتفظ من ضربات العصا بما يستحقّ أن نحتفظ به، لا يجب أن نخشى انزعاجه( ويقصد الطفل طبعا)، بل علينا الخشية من رضاه. فهو يحبّ الظّاهر ولكنّه يزدريه أيضا. فإذا أعنته على الحساب، سيستسلم وسينتشي، إذ هو مجرّد طفل؛ ولكن إذا لم تَعِنْه، بل بالعكس، انتظرت ببرود أن يعين نفسه، وإذا ما أشرت إلى الخطأ دون مجاملة، تعرّف حينئذ على صديقه الحقيقيّ، الذي لا يمدح أبدا ولا يغشّ أبدا. أمّا عن الشدّة فستتكفّل بها الأعداد، فهي بلا رأفة. على هذا النحو يُكرّم معلّم القيم بما يستحقّ.”وتجدر الإشارة هنا بأن آلان يعتبر أنّ فرض الانضباط بشيء من الشدّة على الجسد ، وحمل التلميذ على الإلتزام بقواعد العمل ضروري كشرط لولادة الفكر.إذ لا إمكان للتفكير في نظره إلا بالتحكّم في الأهواء ولا يكون ذلك إلا بتربية الجسد على الانضباط بالتدريب والتمرين. ويؤكّد آلان في هذا المجال على أن يكون التدريب “ميكانيكيا” بمعنى يعتمد على التكرار قصد امتلاك المهارة إذ يقول:” لا توجد سوى طريقة واحدة لطبع الخطّ والنحو في ذهن طفل ؛ هو أن أن يعيد ويكرّر وأن يصلح ويصلح له ” . وهذ الفعل المكرر والآلي من شأنه أن يربي الارادة على التحمّل والصبر وعلى المشقة والجهد وهو فضلا عن هذا تمرين للجسد وتربية له. فالتعليم يفترض إذن تربية الجسد ويسمح بتحقيقها. وتقترن التربية على التفكير بالتربية للجسد. يقول آلان:” تسطير هوامش جميلة على كراس جميل، ونسخ قواعد بوضوح وبتوازن، وجميلة، هذا هو العمل السعيد اللطيف الذي يمثّل مهد الفكرة”.من هنا جاء التأكيد على معنى الصعوبة في التعلّم وعلى ضرورة سعي المعلم إلى فرض اليقظة والانتباه حتى لو أدى الأمر إلى الشدة. لذا يستخلص آلان بأنّ على الطفل في كل حالات التعلّم أن يستشعر الصعوبة فبهذا يمتلك القدرة على التفكير الحرّ. فيقول:” يجب أن يكون له أيضا شعور بأن هذا الاشتغال عل ذاته صعب وجميل. لن أقول فحسب عمّا هو بسيط بأنّه سيّء؛ بل سأقول عمّا نظنّه سهلا بأنّه سيّء. فالانتباه السهل مثلا ليس بالمرّة الانتباه؛ وإلاّ قلنا إذن بأنّ الكلب الذي يرقب السكّر منتبه. ثمّ إنّي لا أريد أثرا لسكّر؛ وتبدو لي الحكاية القديمة عن كأس مرّة طليت حافتها عسلا، سخيفة. أفضّل جعل حافّة كأس العسل مرّة. بيد أن ذلك غير ضروريّ؛ إنّ المشاكل الحقيقيّة هي أوّلا مرّة المذاق؛ ولن يفوز باللذّة إلاّ من تجاسر على المرارة. لن أعد إذن باللذّة، ولكنّي سأجعل من قهر الصعوبة غاية؛ ذاك هو الطُّعم المناسب للإنسان؛ ومن هنا فحسب يصل إلى التفكير بدل التذّوق”. ولكن ضمن أي فضاء يمكن تحقيق هذا المطلب ، التفكير الحرّ؟

    يعتبر آلان أنّ المدرسة هي الفضاء الملائم للتربية على التفكير الحرّ. وهذا يعني أنّ دورها لا يقتصر على التعليم كما يريد البعض( بدعوى أن التربية شأن القديسين لا الأساتذة كما يقول ميلنار) ؛ لأنّ التربية والتعليم لا يفترقان بل لا فرق بينهما عند آلان . إضافة إلى كون الأسرة في نظره لا تحسن التعليم كما هو حال المدرسة. يقول آلان:” تسيء الأسرة التعليم وحتّى التربية”. ويعبّر آلان عن أهمية المدرسة من حيث هي مجتمع صغير تدار فيه العلاقات على نحو خاص ويصنع فيه الإنسان بأسلوب خاص غير الذي يعتمد في الأسرة والمجتمع.يقول آلان:” ، تصنع المدرسة التضادّ، مع الأسرة، ويوقظ هذا التضادّ الطفل من سباته البيولوجي ومن هذه الغريزة الأسريّة التي تنغلق على ذاتها…. ربّما يكون الطفل قد تخلّص من الحبّ بهذا الجرس وهذا المعلّم القاسي. إذ يجب أن يكون المعلّم قاس ؛ نعم ، لا يتأثّر برقّة القلب، التي لا تأخذ هنا في الحسبان. عليه أن يكونه، وهو كذلك. هنا يتجلّى الحقيقيّ والعادل ولكنهما قدّرا بالسنّ. هنا أمّحت سعادة أن نوجد؛ كلّ شيء هو في البداية خارج وغريب. يكشف الإنساني عن نفسه في هذه اللغة المنظّمة، في هذا الأسلوب الغنائي، في هذه التمارين، وحتّى في هذه الأخطاء التي هي من قبيل الاحتفال ولا تلزم القلب في شيء. ويَظهر ضرب من اللامبالاة؛ ويُلقي الفكر بنظره المائل وصبره الذي لا يقهر. العين تقيس وتحسب، بدل أن تأمل وتخشى. ويأخذ الزمن بعدا وقيمة. ويكشف العمل عن وجهه البارد، لا يتأثّر بالمشقّة و لا حتّى باللذة.” ولأنّ المدرسة فضاء خاص للتربية فلابد أن يهيئ على نحو ملائم لهذه المهمّة: مهمّة العمل . يقول آلان:” . إنّ المدرسة مكان رائع. وأحبّ أن لا يعكّر صفوه إطلاقا ضجيج الخارج. فأنا أحب هذه الجدران العارية. ولا أوافق أن تعلّق عليها أشياء للمشاهدة، حتّى لو كانت جميلة، إذ يجب أن يتجه الاهتمام إلى العمل. أن يقرأ الطفل أو أن يكتب أو يحسب، فمجرّد هذا العمل، هو عالمه الصغير الخاص، الذي يجب أن يكفيه.”على هذا النحو تكون المدرسة فضاء للعمل هو التعلّم، فضاء اجتماعيا مغلقا ” لا يعكّر صفوه ضجيج الخارج”. وتتكفّل المدرسة فيه بتمكين التلميذ، هذا الإنسان الصغير من المرور من حال القصور إلى حال الرشد والذي علامته، على معنى كانطي” أن يفكّر بنفسه”. وهذا كلّ العمل وخلاصة المهمة التي يضطلع بها المدرس. يقول آلان:” طالما لم يفكّر الطفل في تفكيره ، فنحن لم نصنع شيئا” ،ذلك أن التفكير هو الطريق إلى الفهم و المعرفة ، معرفة الذات والعالم .فـ” بالتفكير يتوصّل الطفل إلى معرفة معنى أن يفهم ومعنى أن يعرف ويغيّر ذاته بذاته”. وحتّى إذا كان الطريق إلى ذلك صعب فهو جدير بالمشقة والجهد “فلا أحد ينقذ نفسه بكمال الآخرين بل بأخطائه الخاصّة يدرك الحقيقة”.ويؤكّد آلان على اقتران التربية على التفكير في المدرسة بتربية الإرادة وذلك بتدريب المتعلم على التحكم في انفعالاته وتجاوز ذاته وما يعكّر صفو تفكيره من الأهواء والانفعالات ؛ بل إنّ مهمّة المدرسة حسب آلان لا يجب أن تؤكد على الذهن بقدر ما تؤكّد على الإرادة لأنّ ما ينقص حقا هو الإرادة لا الذهن وما يصنع بليد الذهن هو الإرادة لا الفكر. ويذهب آلان إلى تدعيم التدريب على التحكّم في الانفعالات  القائم على ضرب من “الآلية الديكارتية” (التي تسلم بمقابلة الجسد وأهواءه بالعقل وجعل الجسد أداة للفكر تخدمه ، في حال   إخضاعه لسلطة الفكر)،  بدروس في الأخلاق. غير أنّ هذه الآلية او الميكانيكية في التعلّم هي إنسانية بحكم غايتها وهي الارتقاء بالطفل معرفيا وإيتيقيا وبناءه كإنسان.

إن الوقوف على أهم آراء آلان التربوية في هذا التحليل الموجز يسمح لنا باستخلاص جملة من المعاني الأساسية، هي كون فعل التعلّم فعل تربوي في جوهره لا يتّصل بالجانب الذهني ولا يرد إلى عملية تحصيل للمعارف بل يتعلّق ببناء إنسانية الطفل، هذا الكائن الصغير وتمكينه من الارتقاء إلى حالة ” الرشد”. من هنا فلا وجاهة للفصل بين التربية والتعليم ، ذلك أن تعلّم علم تربية للذات . تقول بينارويز :” إنّ متابعة درس في الارتميتيقا هو في حدّ ذاته تعلّم التحكّم في الذات والتعلّم بهذا المعنى  هو تربية أخلاقية حقيقيّة. إنّ الهدف الوحيد للتعليم يتضمّن بعدُ كلّ ما نسمّيه عامّة تربية”. من هنا فالتعليم كتربية ، مناسبة متفرّدة لإكتساب القدرة على التفكير الحرّ، على التفكير النقدي؛ قدرة لا يتعارض اكتسابها مع “سلطة” المعلمّ بل تستوجبها ضرورة بحكم أن التفكير تمرين يحتاج فيه الطفل بل حتّى الراشد أن يوجّه وان يقاد وأن يدرّب عليه مثلما ندرّب الطفل على المشي بمفرده أو ندرّب مبتدا على صناعة ما الخ. يماثل آلان التعلم أو التربية على التفكير برياضة “الجمباز”من جهة لزوم الدربة ولزوم المدرّب وما تقتضيه ممارستها وحذقها من مشقة وجهد وشدّة وصرامة . إنّ تأكيد آلان على صورة ” المعلّم ” بوصفه سيادة مستقلة يعني إقراره “بالتراتبية البيداغوجية” وهو أمر أساسي في صون العلاقة بين المتعلم والمعلم في بعدها القيمي الإيتيقي ، أي الحفاظ على مبدإ احترام ” المعلم” و” المتعلّم” سواء، مع تقدير الفارق بينهما في الدور والمنزلة . ورغم أن العلاقة تأخذ شكلا عموديا كأي علاقة “سلطة”، فهي مع ذلك ليست علاقة تسلّط ولا قمع ، بل علاقة لبناء “الحرية” في مسار تحرّر يكون فيه المعلّم مساعدا وعونا وموجها. نتبيّن هكذا تطابقا بين فعل “التحكّم في الذات ” أو حكم الذات لذاتها” وبين فعل “التحكّم في الآخر ” أو ” حكم الآخر”. بمعنى أن سياسة المعلم للتلاميذ لا تنفي امتلاكهم القدرة على سياسة أنفسهم بأنفسهم. وانّ جهد المعلّم في تدريب المتعلم على أن يفكّر من خلال تمارين يلزمها بها لا يتعارض مع إمكان اكتساب المتعلّم القدرة على أن يفكّر بنفسه ، شريطة أن يتركّز عمل المعلّم على إرادة المتعلّم ، على تربيتها وإزالة ما فيه من وهن ونقص الخ . بهذا المعنى يكون ” التعليم او التربية” فعل ” تنوير” للعقول بالمعنى الكانطي أي ارتقاء إلى ” حالة الرشد”. ومثلما يقول آلان في ” أقواله” :” من هنا أعود إلى فكرتي ، من أنّه يجب مساعدة الطفل وتوجيهه واقتياده وانّه بهذا نحرج أخيرا فكره الخاص ، شيء نادر، وثمين جدّا من حيث أنّه عظيم القيمة لدى الجميع مثل بيت من ملحمة هوميروس”. لعلّنا اليوم في حاجة إلى أفكار مثل هذه لتجاوز ” أزمة التربية” و” أزمة المدرسة” كفضاء بات فيه “فعل التعلّم” أمرا صعبا جدّا إن لم يعد مستحيلا ، خاصّة في ظلّ الطفرة التكنولوجية الرقمية  التي غيّرت بعمق في ” العلاقة التعليمية” والتربويّة . ربّما نحن في حاجة إلى تحيين أفكار آلان وغيره ممن آمنوا بالتربية ، تربية يحتلّ فيها الإنساني موقعا مركزيا أفليس الانسان ” إنشاء تربويا ” كما يقول كانط ؟. تجد أفكار آلان على نحو ما صداها عند فلاسفة معاصرين مثل ” إدغار موران” في نظرته المستقبلية للتربية . نظرة توازن بين مقتضى أن يكون المعلم معلّما ومطلب الحرية . ولأنّنا نجد لدى آلان هذا المتيقّظ للحرية تصوّرا طريفا لهذا التوازن ، يمكن لنا الاختلاف معه ولكنّنا نحتاجه راهنا من أجل بناء مستقبل للتربية.

  • الإحالات والهوامش

1-“أقوال في التربية” آلان-  13e édition, 202 pp   Paris : Les Presses universitaires de France, 1967,-( ملاحظة : في عرض وتحليل آراء آلان في التربية، كل الإحالات بين معقفين  تعود إلى كتاب ” أقوال في التربية”. في ترجمتي الخاصّة

  • المراجع:
  • كتاب ” أقوال في التربية” آلان
  • مقال طوماس بلمان:” الفلسفة النقدية والسياسة التربوية : فوكو ، آلان ، كانغيلام” ديسونسيس ص 101
  • مقال :” آلان والتربية ” فيليب فوراي ” النشرة العالمية للتربية جزء 23 -1993 ص 21-23

إغلاق