ماذا نقصد بفلسفة التربية ؟

ماذا نقصد بفلسفة التربية ؟
الكاتب: محمد فراح

كما تلاحظ هنا ، هذا هو السؤال الذي قررنا الإجابة عنه في هذا المقال ، إنه سؤال مباشر جداً ، بمعنى أنه لا يحتاج إلى مقال كلاسيكي من مقدمة وعرض وخاتمة للإجابة عنه ، بل نجيب عنه بطريقة مباشرة جداً ، الغرض منها توضيح الجواب أو توضيح الإشكال أو اللبس والغموض الذي قد يحتويه هذا السؤال ، خاصة وأن لفظة «فلسفة» التي تتضمن هذا السؤال هي ما جعلته سؤالا إشكاليا بإمتياز ، فلو قلنا ماذا نقصد بالتربية ؟ لكان السؤال واضحا جداً ، ربما لن يحتاج حتى إلى كتابة مقال خاص به ، بل سنجيب عنه إنطلاقا من آخر تعريف وصلت له التربية مع علماء التربية المعاصرين ، بمعنى سنقول يعرف علماء التربية ، التربية بكونها (……. إلى آخره) ، بهذا نكون حسمنا مع هذا السؤال البسيط جداً ، ولن نضيع وقتنا وجهدنا في كتابة مقال عنه ، لكن عكس ذلك سيحدث لو قمنا بإقحام الفلسفة داخله ، في الحقيقة ، هذه خصيصة في الفلسفة ، فهي عندما تلج أي مجال أو ميدان معرفي معين ، أو كيفما كان نوعه ، لا تغادره ، إلا بعد تركه مليئا بالمشاكل ، وتجعله يعيد مساءلة نفسه ومراجعتها من جديد ، إذن من هنا يمكن الإنطلاق من مجموعة من الأسئلة التي تعبر في الحقيقة عن السؤال الذي وضعناه عنوانا لمقالنا ، أقصد سؤال ماذا نقصد بفلسفة التربية ؟ ومثل هذه الأسئلة التي تعبر بطريقة مباشرة عنه مثل :

ما هي فلسفة التربية ؟ أو ماهية فلسفة التربية أي حقيقتها الثابتة وجوهرها ؟ أو حتى عندما نقول ما هي التربية ؟ لكن هنا في حالة طرحنا السؤال بشكل إشكالي وعام وشمولي ، وغالبا عندما لا نكتفي بجواب أو تعريف علماء التربية للتربية ، أي لا نطمأن لذلك الجواب ، ونعيد مساءلته وفحصه وتمحيصه ونقده جيداً ، أي لا نكتفي بترديد ذلك الجواب ونطمئن له ، ونخلص عنده ونقول إن هذا الجواب لهو الجواب القطعي فعلاً والنهائي ، لذلك فميزة الفلسفة هي أنها لا تقبل أي جواب نهائي وقطعي يدعي الحقيقة المطلقة ، بل تضع جميع الإجابات التي تدعي ذلك للمساءلة وإعادة المساءلة والنقد والدحض والتفنيد والفحص والتمحيص ، كما أن هناك سؤالا آخر ، ذلك المتعلق ب ما هي الفلسفة في الأصل ؟ ثم ما معنى أن نجمع لفظتي «فلسفة» و «تربية» ونكون عبارة «فلسفة التربية» ، ثم نتساءل بعدها ماذا نقصد بهذا المركب المجمع «فلسفة التربية» ؟ ثم كيف يمكننا الحديث عن التربية موضوعا للتفكير الفلسفي ؟ خاصة وأننا نعلم حالياً أن التربية إستقلت بذاتها وأصبحنا نتكلم عن علوم التربية ؟ هنا نكون وصلنا إلى مربط الفرس ، أي كيف تكون التربية موضوعا للتفكير الفلسفي متمثلة في «فلسفة التربية» ، ثم موضوعا في العلوم ، أقصد هنا علوم التربية المعاصرة ، هذه الإزداوجية في البحث ، والإشتراك في الموضوع ليس بالصدفة ، بل هناك في حقيقة الأمر ، ما يميز فلسفة التربية عن علوم التربية ؟ إذن ما هذا الفارق بينهما ؟ وما الذي يميز أحدهما عن الآخر ؟ أي ما الذي يميز فلسفة التربية عن علوم التربية بشتى أنواعها وأشكالها ؟ ثم ما هو المدخل الرئيسي لهذه الفلسفة ، أي فلسفة التربية ؟ بل وكيف طرحت مشكلة أو إشكالية التربية في تاريخ الفلسفة ؟ أو التربية عبر تاريخ الفلسفة الذي هو تاريخ ضخم جداً يمتد من القرن السادس قبل الميلاد إلى الفترة المعاصرة الراهنة ؟ أي إلى القرن الواحد والعشرين 21 م ، هذه الفترة الممتدة والطويلة التي ليست بالسهلة والهينة ، كيف طرحت فيها مشكلة التربية وكيف قاربها الفلاسفة عبر هذا التاريخ المديد ، بل نتساءل عن كيف دخلت التربية إلى الفلسفة ؟ وأصبحت موضوعة للتفكير الفلسفي ، خاصة وأننا نعلم أن التربية لا تندرج ضمن الموضوعات الرئيسية الكبرى للفلسفة ، أقصد الوجود والمعرفة والقيم ، لكن إن أردنا أن ندرج التربية في الفلسفة ، أين سندرجها ؟ بمعنى في أي موضع نضعها ؟ هل بجانب الوجود أو بجانب المعرفة أم لجانب القيم ؟ .

أنا متأكد الآن ، أنك ستكون لاحظت معي مدى صعوبة هذا السؤال ماذا نقصد بفلسفة التربية ؟ بل لاحظت مدى الإشكالات التي أثارها أو التي نتجت عنه عندما قمنا بطرح تساؤلات ما هي في حقيقتها سوى تعبير عنه ، والآن سنشرع في أشكلة هذا الموضوع أكثر فأكثر ، حاول الإنتباه جيداً إلى ما سيثيره من إشكالات فلسفية عندما نشرع أو نحاول تحديد ماهيته وحقيقته بالتفصيل.

أولاً وكما نعلم جميعاً أنه عندما نتساءل ماذا نقصد بفلسفة التربية ؟ فالسؤال هنا يتكون من عبارة مركبة ومزدوجة من مفهومين في الحقيقة ، الأول هو ما هي الفلسفة ؟ ثم ثانياً ما هي التربية ؟ لنتساءل فيما بعد عن  عملية جمع السؤالين بماذا نقصد ب «فلسفة التربية» ؟ جوابا على الأول ماهي الفلسفة ؟ هو جواب أيضاً قد يقودنا إلى إشكال تقليدي كلاسيكي مطروح في تاريخ الفلسفة بنفسها ، أي الفلسفة لذاتها وبذاتها يصعب عليها الإجابة عن ماهيتها وحقيقتها ، بل في تاريخها هي ، صعب على الفلاسفة تحديد هذه الماهية بل تحديد حتى وظيفة الفيلسوف ، فعندما نقول ما هي الفلسفة ؟ نقول أيضاً من هو الفيلسوف ؟ وما هي مهمته ؟ وكيف يعرف نفسه بالفيلسوف ؟ بل هل يمكن إعتبار أنفسنا نحن فلاسفة ؟ ومن هم هؤلاء الفلاسفة في الأصل ؟ وما دورهم في هذه الحياة ؟ بل ماذا إستفادت الأمة من هؤلاء الفلاسفة ؟ إن مثل هذا السؤال يقودنا للحديث عن مستقبل الفلسفة أيضاً ، بل ميلادها أيضاً ؟ وصراحة مثل هذه الأسئلة إن أردنا الإجابة عنها قد نحتاج إلى كتاب أو مجلد ، بل هي أسئلة تأخذ سنين عديدة من الدراسة والبحث لإكتشاف بعض الأجوبة المترتبة عنها ، نشير هنا إلى كتاب “ماهي الفلسفة ؟” الذي وضعه كل من جيل دولوز وفيلكس غواتاري ، وهو كتاب ممتاز جداً ، يعتبر «الفلسفة إبداع وخلق للمفاهيم وليس تقديم أنساق كلية وشاملة» [1] ، لكن في حقيقة الأمر ، يصعب الوقوف على هذا التعريف والركون له ، خاصة أن كارل ياسبرز يعتبر «أن جوهر الفلسفة هو في البحث عن الحقيقة لا في إمتلاكها … إن الإشتغال بالفلسفة معناه المضي في الطريق ، والأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة ، فكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديداً.»، [2] وكأنه يعتبر الفلسفة إبداعا للإشكال وليس تقديما للجواب، بمعنى أن له تصور مخالف تماماً لجيل دولوز وفيلكس غواتاري ، وليس هذا الإختلاف الموجود هنا فقط ، بل الإختلاف يعود في جذره وأصله إلى تاريخ الفلسفة ، فكل فيلسوف يقدم تعريفا خاصا به للفلسفة ، إن لم نقل لفلسفته هو ، منذ أفلاطون وإختلاف أرسطو معه ، مرورا بديكارت وإختلاف هيوم معه ، ثم كانط وإختلاف نيتشه معه ، إلى شوبنهاور الخصم العنيد لهيغل ، إلى ياسبرز وإختلاف جيل دولوز معه ، … إلى آخره ، هذا الخلاف  والجدال والنقاش والصراع هو ما ميز تاريخ الفلسفة ، وتضادهم ، أي الفلاسفة ، حول تعريف الفلسفة بالضبط ، علما أن الأصل الإشتقاقي للفلسفة ، أنها كلمة يونانية من «فيليا» (محبة) ، و «صوفيا» (حكمة) ؛ وهي البحث عن الحقيقة أو حقيقة الحقيقة في موضوعات الوجود والمعرفة والقيم ، وهذا البحث هو ما ينتج عنه مجموعة من التصورات والمقاربات والرؤى الفلسفية التي تخص الفلاسفة وفقط ، إذن نأخذ هذا التعريف ونلصقه بفلسفة التربية ، التي تحيل  إلى التصورات الفلسفية للتربية ، أو الرؤى الفلسفية للتربية ، من خلال وجهة نظر الفيلسوف ، بمعنى كيف ينظر الفيلسوف إلى التربية ؟ بمعنى أن الفيلسوف وهو يشتغل بالفلسفة ويمارس التفلسف كيف يتفلسف في التربية ؟ وينتج عنها فلسفة ، بمعنى يقدم لنا تصورا فلسفيا خاصا به حولها ، أي التربية ، أو وجهة نظره الخاصة به حول التربية ، هذه هي فلسفة التربية في الحقيقة ، حيث أن فيلسوف التربية تصبح مهمته المنوطة به هو أن يقدم لنا تصورا أو وجهة نظر فلسفية خاصة به هو عن التربية ، في إطار رؤيته الشمولية والكونية والعامة والكلية عن العالم (الوجود) والمعرفة (العلوم) والقيم (الأخلاق) ، لذلك تصبح التربية ويتم إقحامها رغما عنها مع هذه القضايا ، وبالتالي تتحول إلى قضية فلسفية عرضية أي جزئية ، بمعنى أنها ليست كلية وشمولية وبانورامية ، بل جزئية يضمها الفيلسوف لنظرته الكلية حول العالم والإنسان ، وبالتالي هي ليست قضية ذاتية ، بمعنى صدرت من ذات الفلسفة بل عرضية ومترتبة عن الفلسفة ذاتها ، وبالفعل هذا ما نجده مع أفلاطون الذي يعود له الفضل في إعتباره أول فيلسوف تربية عبر تاريخ الفلسفة ، فقد قدم منهجا تربويا أو نظام تربويا وتعليميا في محاورته الجمهورية التي تعكس قمة نضوجه الفكري والفلسفي ، كما قدم أيضاً تصورا فلسفيا حول التربية في محاورتي مينون وبروتاغوراس ، كل هذا جاء في سياق تقديم تصور عام وشمولي جداً وكلي عن مدينته الفاضلة «الجمهورية» ، كما نجد أن أرسطو أيضاً قدم تصورا فلسفيا متميزا جداً حول التربية ، لكن في إطار تقديم تصور كلي وشامل أيضاً في الأخلاق ، بمعنى ربط التربية بحقل الأخلاق ، في كتابه العمدة «الأخلاق إلى نيقوماخوس» ، كما نجد في الحقيقة أن أول من مارس البيداغوجيا كمنهج أو فن في التدريس هم السوفسطائيون الإغريق ، لذلك يحسب لهم أيضاً مساهمتهم في حقل التربية بشكل عام ، حتى عندما ننتقل مثلاً إلى الحضارة العربية الإسلامية ، نجد أن الفلاسفة العرب المسلمين أيضاً فكروا بدورهم في مسألة التربية ، نجد ذلك مثلاً مع الفيلسوف إبن مسكويه من خلال كتابه «تهذيب الأخلاق و تطهير الأعراق» ، إضافة إلى الفيلسوف إبن طفيل الذي نجد له رواية فلسفية شهيرة جداً عنونها ب «حي بن يقظان» ، من يقرأها يستشف فيها مدى نباغة صاحبها وذكائه وفطنته في تلمس قضايا تربوية بطريقة مضمرة غير صريحة ، بل نجد من الفلاسفة العرب المسلمين الذين صرحوا بفلسفتهم التربوية بشكل مباشر جداً وصريح أيضاً أقصد حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في رسالته الشهيرة جداً ، أيضاً ، التي عنونها ب «أيها الولد» ، رغم كثافتها وتركيزها وإقتضابها الشديد جداً ، إلا أنه لا يمكن أن نقول عنها سوى أنها رسالة فعلاً في التربية ، بل نصيحة موجهة مباشرة بشكل صريح إلى المتعلم (الولد) ، في حقيقة الأمر ، إن التفكير في التربية لهو شامل جداً ، بل قد نجد إمتداده إلى الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية) ، بل حتى باقي الحضارات القديمة جداً ، أقصد الحضارية البابلية ، والحضارة الهندية القديمة ، ثم الحضارة الصينية ، بل الحضارات الآسيوية القديمة بكل روافدها ، فلا يمكن حصر التربية في حضارة دون أخرى ، أو ثقافة دون أخرى ، وبالتالي سنقوم بعملية التعميم ونقول ، إن التربية خصيصة تميز الإنسان عن باقي الموجودات ، وموجودة لدى كل الحضارات الإنسانية عبر التاريخ ، فعلت ذلك ، كي لا يعتقد قارئ المقال ، أن التربية ظهرت مع أفلاطون بالضبط أو في الحضارة اليونانية بالخصوص ، لا ليس كذلك ، التفكير في التربية بدأ مع الفلاسفة اليونان الأوائل سقراط وأفلاطون وأرسطو ، أما التربية فهي لا تخص حضارة دون أخرى ، بل هي تهم كل الحضارات ، حتى الحضارات القديمة فكرت في التربية ، لكن غير التفكير الذي خاصه بها فلاسفة أثينا ، أقصد سقراط وأفلاطون وأرسطو ، نغلق هذا القوس ، ونتمم حديثنا مع أن التربية في العصر الغربي الحديث أخذت شكلا مختلفا أي جديداً ، خاصة مع جون لوك الذي كتب كتابا مفردا خاصا بها ، عنونه ب Quellques Pensées sur l’éducation

أي بعض الأفكار حول التربية ، لذلك يمكن إعتباره المؤلف الفلسفي الأصيل في التربية والذي يحيل عنوانه بالفعل إلى فلسفة التربية ، أي بعض الأفكار حول التربية ، وهو الذي قدم فيه تصورا فلسفيا متميزا جداً عن تربية الإنسان ، بل ركز كثيراً على ضرورة تعليم الطفل الإستدلال الرياضي المنطقي ، ليأتي بعده جون جاك روسو الذي سيثور على هذا التصور ، من خلال كتابه إميل أو في التربية ، الذي ركز فيه على ترك الحرية والإستقلالية المطلقة للطفل في التعلم نفسه بنفسه ، بدون تدخل الآخر المرشد في نشأته ، يمكن إعتبار روسو من رواد التربية السلبية الطبيعية  ، لننتقل بعد ذلك إلى كانط الذي سيكتب عن تأملات في التربية Réflexions Sur l’éducation.

هذا الكتاب الذي يعكس بالفعل فلسفة التربية بإعتبارها تأملات حول التربية ، يقدم هذه التأملات الشخص الذي يعتبر نفسه فيلسوفا ، كما أن هناك مؤلفا ممتاز جداً لنيتشه عنونه ب Schopenhauer éducateur.

وهو في الحقيقة كتاب حول شوبنهاور المربي أو المدرس ، لكنه يمكن إدراجه ضمن تقليد “الفيلسوف المربي النموذج” ، كما أن هناك إسهاما آخر لكوندرسيه هذه المرة ، المتمثل في Sur la nécessité de l’instruction publique، الذي سيشتغل على مشروع كبير جداً المتعلق بمسألة التعليم العمومي ، وسيحرر الكثير من الرسائل والمذكرات المعروفة عن هذا الموضوع ، كما لا ننسى الفيلسوف الألماني فريدريش فون شيلر الذي سيكتب Lettres sur l’éducation esthétique de l’homme ، أي رسائل عن تربية الإنسان الإستيطيقية ، وهي أيضاً تعد أعمالا يمكن إدراجها في حقل الفلسفة والتربية ، خاصة التربية الإستطيقية (الجمالية) ، هكذا كان مسار فلسفة التربية في العصر الغربي الحديث ، خاصة في فترة الأنوار الفلسفية ، لننتقل مباشرة إلى الفترة المعاصرة مع كل من جون ديوي الذي سيكتب عن المدرسة والطفل ، بل أيضاً عن الديمقراطية والتربية ، إضافة إلى مونتيسوري التي كان لها مشروع تربوي تعليمي طموح للغاية ، يركز على الطفل ، كما لا ننسى السوسيولوجي الفرنسي إيميل دركهايم الذي سيكتب عن السوسيولوجيا والتربية ، إضافة إلى كتاب عنونه  ب التربية الأخلاقية ، مع مؤلف بيداغوجي آخر يصف التطور البيداغوجي في فرنسا ، كما لا ننسى السيكولوجي الفرنسي جون بياجي ، رائد السيكولوجيا التكوينية ، الذي له العديد من الأعمال حول سيكولوجيا الطفل ، ولا ننسى أيضاً مساهمات كل من بيير بورديو وجان كلود باسرون اللذان كتبا عن المدرسة وإعادة الإنتاج ، بل هناك من تجرأ وكتب عن مجتمع بلا مدارس ، أخص بالذكر هنا إيڤان إليتش الذي كان من دعاة الرافضين للمدرسة ، إضافة إلى أن هناك من كتب عن تعليم المقهورين ، نعم نحن نتحدث هنا عن باولو فريري ، هذه الإسهامات الأخيرة تندرج ضمن سوسيولوجيا التربية التي ستكون أخذت إستقلالها الكلي في منتصف القرن العشرين ، هنا بالضبط سنشرع في الحديث عن علوم للتربية ، التي إنقسمت في البداية إلى سيكولوجيا التربية من خلال نظريات التربية والتعلم والنمو التي تندرج ضمن حقل سيكولوجيا التربية ، ومع تطور النظريات السوسيولوجية المعاصرة ، خاصة دراسات سوسيولوجيا التربية التي ستنهل منها أيضاً علوم التربية ، إضافة إلى أنثروبولوجيا التربية ، وعلوم أخرى كإقتصاد التربية ، والأخذ كذلك من فلسفة التربية التي نجد إستقلالا لها مع أوليڤيي روبول من خلال كتابه «فلسفة التربية» ، بل ركزت علوم التربية كذلك على تاريخ التربية ، والبيداغوجيا والديداكتيك ، … إلى آخره من العلوم التي إستقلت بذاتها وتحاول دراسة التربية دراسة موضوعية وتجريبية إمبريقية إختبارية خالية من كل أحكام قيمة أو معيارية التي نجدها فقط مع فلسفة التربية التي لازالت تقدم تأملات ميتافيزيقية (نتحفظ كثيراً على هذه الكلمة) حول التربية ، بل لدرجة أن علوم التربية لم تكتفي بذلك بل نجد أنها إمتدت إهتماماتها حول التربية ، حتى اللسانيات ، وأصبحنا نتحدث كذلك عن اللسانيات التربوية ، وعلم الإمتحان ، أو علم التقويم المدرسي ، ثم علم التقييم ، والتشريع المدرسي وأخلاقيات المهنة والتربية على القيم ، كل هذه العلوم أصبحت تدعي أنها تنتمي ضمنيا وبشكل مستقل في علوم التربية ، فكأننا أصبحنا نتحدث عن أبعاد للتربية ، أي فروعا ، أصبحت علوما قائمة بذاتها ومستقلة ، وكل يقدم تصوره الخاص حول التربية ويدعي أنه يقدم وجهة نظر إمبريقية (إختبارية وتجريبية) ما عدا الفلسفة التي عادت دائماً لمهمتها وهي البحث عن الحقيقة دون دعوة إمتلاكها ، بل نجد مع أوليڤيي روبول الذي سيخص فلسفة التربية بالبحث عن قيم التربية [3] Les Valeurs et l’éducation أو القيم والتربية بل سيفرد كتابا خاصا بها عنونه ب Les Valeurs de l’éducation.

          نصل هنا إلى نهاية مغامرتنا الإستكشافية ، التي كان الغرض منها الجواب أو مقاربة سؤال “ماذا نقصد بفلسفة التربية ؟” ، ربما لم يكن الأمر يستحق أن نجشم عنائنا في الإجابة عنه ، خاصة عندما لاحظنا مدى إشكالية هذا السؤال ومدى إثارته للجدل والنقاش والسجال عبر تاريخ الفلسفة بل حتى إستقلال التربية عن الفلسفة ، تحت إسم ألطف منها ب علوم التربية وما تمخض عنها من كم هائل من العلوم والمعارف والمباحث والدراسات كل يدعي دعواه أنه يمتلك الحقيقة ، ربما هذا ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى ما يمكن تسميته بتداخل المعارف والعلوم من أجل البحث عن حقيقة واحدة ، كانت هنا هي التربية ، لكننا في نهاية المطاف قد نجزم أن فلسفة التربية لم يكن الغرض منها البحث عن إجابة دقيقة عن الأسئلة التي تطرحها بخصوص التربية ، بل كان غرض فلسفة التربية منذ بدايتها هو التوقف عند مشكلة التربية ذاتها والتأمل فيها ، بدون الوصول إلى جواب نهائي وقطعي حولها ، كان الغرض دائماً هو إثارة المشكل والتأمل فيه بشكل حر ومركز ، لا يخضع لأي ضابط ، غير الضابط العقلي ، لعل هذا هو ما جعل أوليڤيي روبول يخص فلسفة التربية بالتأمل في قيمة التربية ، أو غاية التربية لذاتها ، كان هذا هو موضوع فلسفة التربية المعاصر .

المراجع والمصادر المعتمد عليها:

[1] – Deleuze et Guattari, Qu’est-ce que la philosophie, éd . Minuit 1991 , pp. 10,11,12.

[2] – Jaspers, Introduction à la philosophie, plon 10/18 , p 5 et 6 .

[3] – Olivier Reboul, LA PHILOSOPHIE DE L’ÉDUCATION, Dépôt légal 1 re édition : 1989 , 11 e édition : 2016 , juin Éditions CHAARAOUI, 2017 , p 96 .

إغلاق