تحليل شعار “المدرسة في الحياة” لدى أوليفيي روبول

تحليل شعار “المدرسة في الحياة” لدى أوليفيي روبول
محمد فراح

هذا المقال هو عبارة عن تحليل لمقال يمكن أن تجده في كتاب Le langage de l’éducation : Analyse du discours pédagogique  لمؤلفه Olivier Reboul خاصة الفصل الثالث منه المعنون ب Les devis pédagogiques أو الشعارات البيداغوجية ، من بين هذه الشعارات نجد « المدرسة في الحياة » ، تأمل جيداً هذا الشعار ، « فهي صيغة أكثر سحرا مثلما هي صيغة فارغة . » [1] ، إن الشعار في الحقيقة يثير الكثير من التساؤلات مثل ماذا نقصد ب المدرسة في الحياة ؟ هل يعني هذا أن المدرسة متواجدة في الحياة أم أن المدرسة توجد خارج سياق الحياة ؟ أو يمكن إعتبار المدرسة حياة والحياة مدرسة ؟ وبالتالي فالمدرسة تنفتح على الحياة أو ربما تنغلق عنها وتضع حدودا عليها ؟ أو ربما كيف نضع المدرسة في الحياة ؟ أي كيف نفتحها على الحياة ؟ مثل هذه الأسئلة الإشكالية صراحة ، والتي تجعل من وضعية المدرسة في الحياة وضعية تستحق فعلاً إعادة النظر والتأمل فيها ، وفتح نقاش جدي من أجل التعرف على هذه المنزلة أو المرتبة ، خاصة وأننا لن نستطيع جعل المدرسة خارج سياق الحياة ، لأن المسألة هنا ستصبح جد معقدة ومركبة ، خاصة وأن المدرسة تظل مؤسسة تحتوينا جميعاً وتضمنا إليها ، وكأنها دائرة متصلة .

هكذا إذن سنحاول الإنطلاق من المقال الذي وضعه روبول حول هذا الشعار ، فهو من أجل معرفة ماذا يفهم من هذا الشعار « المدرسة في الحياة » قام بتجربة ممتازة جداً داخل فصله الدراسي ، سنة 1978 ، حيث طلب من طلابه في علوم التربية ، تجذر الإشارة هنا إلى أن أوليڤيي روبول كان يدرس فلسفة التربية في جامعة ستراسبورغ بفرنسا ، وكما أشار هو في مقاله ، أنه طلب من طلبته أخذ ورقة وقلم وأن يكتبوا دون ذكر إسمهم ، ماذا يعني بالنسبة إليهم شعار « المدرسة في الحياة » ، وأتاح لهم حرية كتابة ما يريدون وإضافة أي فكرة يرغبون فيها إن كانوا يرونها صائبة ومزيدة لمقالهم .

وبعد الإنتهاء من كتابة المقال ، شرع روبول في تصحيحه أمامهم ، هناك سيلاحظ إصابة بعض الطلبة ، « غير أن الكثير من الأجوبة كانت فارغة ، لأن واضعيها لم يفهموا أن الأمر يتعلق بشعار وكانوا يتساءلون ببساطة عن دور المدرسة في الحياة » [2] ، بمعنى أنهم طرحوا العديد من الأسئلة عن دور المدرسة في الحياة ؟ سواء بالنسبة للفرد أو بالنسبة للمجتمع ؟ « هناك ثلاثون طالبا فقط الذين فهموا أن الصيغة (يقصد الشعار) كانت تدل على التمني -ينبغي على المدرسة أن تكون داخل الحياة- وأنها كانت سجالية .» [3] ، إذن يشير هنا إلى ضرورة ملاحظة الصيغة التي طرح بها الشعار فالمدرسة في الحياة قد تحيل إلى التمني ، كأننا نفترض أن المدرسة يجب أن توجد في الحياة ، وليس في مكانها الذي تتواجد فيه الآن ! ، لذلك سيصل إلى العديد من المعاني أحالت عليها الإجابات المختلفة لطلبته على هذا الإشكال وهي كالآتي:

  • الحياة بإعتبارها مدرسة . إنه يشكل ذلك المعنى الطوباوي أو الحالم والناقد الرافض ، إن لم نقل الفوضوي الذي يستلهم أفكاره من إيڤان إليتش « التعليم في أمكنة أخرى ، ومجالات أخرى غير المدرسة » [4] ، هذا ما كتبه أحد الطلبة كتعليق على هذا الشعار ، وهناك طالب آخر كتب أنه يمكننا إستخلاص الدروس مما نعيشه أي أنه يمكن أن نعيش الحياة ونستخلص منها الدروس ، فتصبح المدرسة تتم بواسطة الحياة أو ما يطلق عليها ب مدرسة الحياة ، لكن هناك من كان له رأي متحفظ جداً فجعل من هذا الشعار يحيل إلى التكوين المستمر ، «إننا لن ننتهي أبدا من التعليم الذاتي لأنفسنا» هكذا تصبح «المدرسة مستمرة طيلة الحياة» ، وهناك من رأى أن «الحياة تتعلم ، إنها التربية بمعناه الواسع جداً» أي أن الحياة في حقيقة الأمر هي نوع من التربية ، إن لم نقل عنها أنها تربية موسعة ومعممة وشمولية وبانورامية جداً ، نحيل هنا إلى المدافعين عن فكرة أن الحياة فلسفة أو فلسفة الحياة ، أو فن العيش الحكيم كما لدى شوبنهاور وإبيكتيتوس والرواقيين وبيير هادو…
  • الحياة في المدرسة أو المدرسة في الحياة ، أو مدرسة الحياة ، أي المدرسة الحية ، والتي تسمح لنا بالإنغماس في الحياة والإنفتاح عليها ، لا الإنغلاق ، وتتيح لنا الكثير من الحرية والإستقلالية ، فهي لا توجيهية وتجربة ملموسة ومشتركة ، تتيح لنا أيضاً مجموعة من الشروط من أجل التواجد مع جميع الأفراد في المدرسة أو حتى خارج المدرسة ، هذه المدرسة الحياة تنبغ من الطرائق الفعالة التي هي طرائق إبداعية وحرة وذاتية تركز على الخيال والإبتكار والإنتاج ، هذه المدرسة حرة ومنفتحة على الفكر ، بل تركز على «تعلم ما نعشقه» ، هذا المعنى يحيلنا أكثر على إدراج وإدخال الحياة في المدرسة ، يجب أن يشعر المتعلم وهو داخل المدرسة ، كأنه داخل الحياة بشكل عام ، وليس داخل مؤسسة سجنية منغلقة على ذاتها ومسيجة أو قلعة حصينة على الحياة.
  • المدرسة المفتوحة على الحياة ، يتم التركيز هنا على إدماج المدرسة في الحياة ، والحياة في المدرسة ، حيث تصبح المدرسة حياة والحياة مدرسة ، أو هكذا نساوي بين المدرسة والحياة «المدرسة = الحياة» ، كذلك يجب العمل دائماً على نقد المدرسة ومساءلتها ، وتحديد قيمتها ، أي وضع المدرسة موضع تساؤل ومساءلة ونقد ومراجعة وفحص وتمحيص ، وإتهام من قبل جميع أفراد المجتمع ، نساءل عدم إنفتاحها على المجتمع ، ولماذا لا تتفاعل مع الحياة ومستجداتها وتطورات هذه الحياة التي تشكل عالم خارجيا بالنسبة للمدرسة ، أي أن المدرسة تطل على عالمها الخارجي ، فلا تبقى منغلقة عنه !! يجب في نهاية المطاف أن نعمل على إقحام المدرسة في العالم الخارجي (أي الحياة) رغما عنها .وذلك من خلال إنفتاح المدرسة على كل المستجدات والتطورات الإقتصادية والسياسية والمجتمعية والثقافية …إلى آخره ، كما يجب على المتعلم أن يشعر داخل المدرسة وداخل الفصل الدراسي بما يحدث من تصدعات وظواهر في المجتمع الذي ينتمي إليه ، خاصة الظواهر الإجتماعية والثقافية السائدة في وسطه الإجتماعي . وذلك من خلال القيام بحملات تحسيسية وتوعية وتثقيفية ولما لا دروسا عن ما يحدث من سائد داخل المجتمع.
  • المدرسة من أجل الحياة ، هذا المعنى هو أكثر غائية ووظيفية ، أي أنه يجعل من المدرسة ليست غاية في ذاتها ، بل مجرد وسيلة وأداة ووظيفة من أجل دمج ذلك المتعلم في الحياة من خلال التمرس والتمرن والتدريب على الحياة الواقعية كما هي ، الحياة المهنية ، تنمية الروح النقدية وتعويد العقل على المساءلة والنقد تجاه وسائل الإعلام والتواصل ، ولما لا حتى العلاقات اليومية والنقاشات والمحادثات التي ننتجها ونعيد إنتاجها داخل المجتمع ، كما العمل على توعية وتثقيف المتعلمين تجاه ذاتهم وتجاه الآخر ، مدرسة تقدم أفكاراعن وسائل الحياة في المجتمع ، وذلك من خلال تخليق الحياة الإجتماعية وتعليم المتعلم آداب السلوك وأخلاقيات الحياة ، وتكوين شخصية مناسبة للعيش داخل المجتمع .
  • وأخيراً بمعنى أكثر كونية وكلية وشمولية وعمومية «مدرسة من أجل تعلم الكينونة» ، أي مدرسة تحاول إدماجنا في الوجود والعالم والكون وتعرف منزلتنا ومرتبتنا داخله ، هذه المعارف المدرسية يجب أن تكون صالحة من أجل الإنسجام والتكامل والتناسب مع هذا الوجود المربك ، وهذا الإنغماس في الحياة وتعلم الحياة بكل تفصيلاتها .

يخبرنا أوليڤيي روبول أن هذه الإجابات المختلفة والممتازة جداً حول هذا الشعار ، وهي إجابات ليست بعشوائية ، بل صادرة عن جمهور مثقف ومتخصص فعلاً ، جعلت من شعار المدرسة في الحياة يتوفر على أربع دلالات -المقدمة أعلاه- تتفرع كل واحدة منها إلى دلالات ثانوية ، تجذر الإشارة هنا إلى أنه في الحقيقة لدينا خمسة دلالات وليس أربع ، ذلك أن قوله أخيراً تصبح دلالة خامسة وليس رابعة ، كما أن هناك فرقا بين الخامسة والأخيرة «مدرسة من أجل تعلم الكينونة» والرابعة «المدرسة من أجل الحياة» ، فهذه قد تحيل على «المدرسة من أجل المجتمع» ، وهناك فرق بين المجتمع والحياة وبين الوجود والكينونة ، على أي كل هذه الدلالات تتداخل بعضها مع البعض ويمكن إختزالها في فكرة أن الحياة هي بالنسبة للبعض ما ندرسه ، وبالنسبة للبعض الآخر هي ما هو مدرس ، نضيف أنه يجب التفريق بين ما يوجد في المدرسة ، وما لا يوجد في المدرسة والذي يعكس الحياة ، كأن نقول المدرسة تظل مدرسة وما ليس مدرسة هو ما يتمثل في الحياة ، لذلك سيعتبر روبول أن ما يؤسس وحدة الشعار ، هي مظهره السجالي ، والإشكالات والمفارقات والإحراجات والتقابلات الذي يثيرها !! ، يضيف أحد الطلبة قائلا : «أن الحياة ، في كل الأجوبة ، هي المعيار الأسمى ، على المدرسة ألا تقتل دينامية الكائن الحي» ، وبالفعل على المدرسة التي هي مؤسسة ثابتة ومنظمة ولا تتحرك ، ألا تعمل على إضفاء خاصيتها الثابتة والسكونية على دينامية الكائن الحي ، فهو في نهاية المطاف كائن حيوي أي متحرك ودينامي ، لا يمكن إخضاعه لعملية تجميد ، إذن يجب على المدرسة أن توافق التحرك والديمومة التي يتميز بها الكائن الإنساني ، وتعمل هي كذلك على تحريك وتغيير نفسها بنفسها ولنفسها وتساير حركية المجتمع وتنفتح عليه ، يتساءل روبول « لكن ماذا يعني لفظ الحياة ؟ ولفظ في ؟ إنهما يعنيان الكثير من الأشياء إلى درجة أنهما قد صار لا يعنيان شيئاً مهما ! »[5] .

 صراحة يطرح هذا الشعار «المدرسة في الحياة» الكثير من اللبس والغموض ، بل وكما قلنا سابقاً ، يطرح أيضاً مفارقات وتقابلات وإحراجات وجدالا ونقاشا مفتوحا ، لا يمكن غلق الباب عنه بتاتا ، خاصة وأننا عندما نقول المدرسة في الحياة ؟ عندما نفكر متأملين هذا السؤال ، قد تكون إحدى الإجابات ، أن هذا السؤال بلا معنى أو فارغا من المعنى حسب فيتغنشطاين ، وذلك لأن المدرسة موجودة في الأصل في الحياة ، ذلك هو موقعها الطبيعي جداً ، فهي ليست موجودة في كوكب زحل !! ، إنها موجودة في المجتمع وفي الحياة بشكل عام ، لو قلت «المدرسة في المريخ» ، لكان الجواب بكل بساطة ، أنه لا وجود لمدرسة في المريخ ، لأن كوكب المريخ هو كوكب كشف عنه العلماء حديثاً أنه صالح للعيش وفقط ، لكن لم نذهب بعد إليه ونعيش فيه ، لنقوم ببناء مدارس هناك ، أي لا توجد حالياً مدارس في المريخ !! إذن يصبح شعار «المدرسة في الحياة» شعارا وعنوانا عاديا جداً ومتقبلا ، ولا داعي لفتح نقاش أو جدال وسجال حوله ، يجب أن تغلق أي نقاش أو محاولة تفلسف حوله أو إنتاج فلسفة عنه ، لأنه واضح جداً وضوح الشمس في النهار ، ذلك أن المدرسة موجودة في الحياة ومنفتحة في الأصل على محيطها فهي العالم الإجتماعي ، والعالم الواقعي ، والحياة ، والعالم الذي يعيش فيه الأفراد والجماعات ، والعالم الذي يحتوي كل الغرائز والرغبات ، لا يمكن أن نقوم بهدم الجدران وتبقى المدرسة هكذا بدون جدران لنقول أنها مفتوحة على المجتمع ، لا ليس هكذا بتاتا ، فهي برغم كونها مسيجة بجدران إلا أنها منفتحة بشكل مضمر على الحياة والواقع والعالم والمجتمع وعلى الأسرة أيضاً وتخلق مجالا ممتازا جداً للتواصل والتفاعل الإجتماعي ، إذن هكذا تصبح الحياة هي كل ما ليس في المدرسة ولكنها المدرسة ذاتها ، أي الحياة = المدرسة ، كما أن المدرسة = الحياة ، ولا يمكن بتاتا الفصل بين هاتين اللفظين .

ختاما ، نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا المقال ، الذي في إعتقادي مقال شيق جداً وممتع أيضاً ، إن لم نقل عنه أنه عميق وجذري ، إنه مقال فلسفي مقتضب جداً حول شعار «المدرسة في الحياة» ، وهي تجربة ممتعة جداً قام بها أوليفيي روبول مع طلابه ، ربما قد ينبهنا على كيفية قراءة وتحليل الجمل والشعارات التي تكون هكذا تحمل في طياتها تلك السذاجة ، فهو شعار هادئ جداً ، لكن كما لاحظنا أثار الكثير من الدلالات المترتبة عنه ، ولاحظنا كيف فكر كل طالب في دلالاته وكيف رد عليها روبول ، لذلك أنصحكم بالعودة إلى هذا المقال وإعادة قراءته كما هو ، لتنظروا إلى متعة قراءته ، لا هو ولا الفصل الثالث بشكل عام ، الذي يتحدث عن الشعارات البيداغوجية ، وإختار روبول في هذا الفصل التحدث عن شعار «المدرسة في الحياة» وكذلك شعار آخر عنوانه ب «دمقرطة التعليم» ، سنفرد له مقالا آخر ، لكن ما يهمنا صراحة هو كيفية طرح الإشكال ، أي أن الشعار يطرح العديد من الإشكالات والمقاربات والإحراجات والتقابلات تكون مضمرة في البداية ، أي عندما تقرأه لأول مرة ، لا تستطيع أن تستشفها للوهلة الأولى ، بل إن الأمر يحتاج لملكة قراءة المضمر والمخفي وما وراء السطور في الشعارات ، وهذه الملكة هي التي يتميز بها روبول ، ونقلها إلى طلبته ، وأن بدوري أنقلها لك أيها القارئ . لذلك يجب أن نقف كثيراً عند هذه الملكة ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالخطاب البيداغوجي الذي يحتاج إلى تحليل لغوي له من أجل بيان تلك المضمرات والمخفيات .

المرجع المعتمد عليه :

[1] – Oliver Reboul , Le Langage de l’éducation. Analyse du discours pédagogique – Paris : PUF, 1984 – coll. L’éducateur.

[2] – أوليفيي روبول ، لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي ، ترجمة: عمر أوگان ، تصدير: د . محمد سبيلا ، أفريقيا الشرق ، المغرب – الدار البيضاء ، 2002 ، ص 125 ، أو يمكن العودة إلى هذا المرجع من الصفحة 124 إلى الصفحة 127 ، لقراءة المقال كاملاً.

[3] – نفس المرجع أعلاه ، نفس الصفحة .

[4] – نفس المرجع ، نفس الصفحة .

[5] – نفس المرجع ، ص 127 .

محمد فراح ، طالب في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط ، سلك الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي -الفلسفة

إغلاق