درس التفسير والفهم في العلوم الإنسانية

الفئة المستهدفة الثانية بكالوريا _ شعبة الآداب والعلوم الإنسانية
المجزوءة: مجزوءة المعرفة
المفهوم:  مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
المحور الثاني: محور التفسير والفهم في العلوم الإنسانية

محاور الدرس

  • التأطير الإشكالي للدرس
  • تعريف مفهومي التفسير والفهم
  • الموقف الأول: إمكانية التفسير
  • الموقف الثاني: ضرورة اعتماد الفهم
  • الموقف الثالث: العلوم الإنسانية تقف بين التفسير والتنبؤ
  • التأطير الإشكالي للمحور:

من المؤكد، أن أي علم لا يمكن أن يكون علما، إلا إذا استوفى مجموعة من الشروط، من بينها، القدرة على تفسير الظواهر المدروسة، أي كشف العلاقات السبيبة الثابتة المتحكمة في فيها. ومنه، فالحديث عن العلمية في العلوم الإنسانية، يقتضي منا البحث في مدى قدرة العلوم الإنسانية على تفسير الظواهر الإنسانية، تفسيرا يكشف الأسباب الموضوعية والثابتة المتحكمة فيها، من عدم إمكانية ذلك. إذن، هل يمكن اعتماد التفسير في العلوم الإنسانية؟ بتعبير آخر، هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة تفسيرية، يتم من خلالها كشف العلاقات السببية الثابتة المتحكمة فيها؟ ألا يمكن القول، أن الظاهرة الإنسانية، ونظرا لخصوصيتها، ولاختلافها عن الظاهرة الطبيعية، لا يمكن أن تفسر، وإنما يجب أن تفهم وتؤول؟

  • تعريف مفهومي التفسير والفهم

مفهوم التفسير: يعني التفسير كشف العلاقات السببية الثابتة بين ظاهرتين أو أكثر.

مفهوم الفهم: يأتي الفهم مقابلا للتفسير، ويشير إلى الـتأويل والتقدير وفهم الدلالات والمقاصد…ويعرفه دلتاي بقوله :” نطلق اسم الفهم على السيرورة التي نعرف من خلالها ما هو جواني (باطني)، اعتمادا على علامات ندركها بواسطة حواسنا.”.

  • مواقف وتصورات

  • الموقف القائل بإمكانية تفسير الظاهرة الإنسانية:

يشير التفسير في العلوم الإنسانية إلى الكشف الموضوعي للعلاقات السببية الثابتة المتحكمة في ظاهرة إنسانية ما، سواء كانت ظاهرة تاريخية، أو اجتماعية أو سيكولوجية… وهنا يؤكد بعض من علماء الإنسان على أن تفسير الظاهرة الإنسانية أمر ممكن، وليس بالأمر المستحيل. من بينهم نذكر على سبيل المثال لا الحصر، عالما الاجتماع الفرنسيين أوغست كونت وإميل دوركايم، فقد ذهبا إلى تشبيه الظاهرة الاجتماعية بالظاهرة الطبيعية. وإلى التأكيد على أنه بما أننا يمكننا تفسير الظواهر الطبيعية كظاهرة سقوط الأجسام مثلا، عبر كشف الأسباب الثابتة المتحكمة في حدوثها، وكما يمكننا التنبؤ بها، فالظاهرة الاجتماعية كالانتحار مثلا، هي الأخرى يمكننا تفسيرها عبر كشف الأسباب الثابتة المتحكمة في وقوعها، ويمكننا التنبؤ بها أيضا.

ولتوضيح مضمون هذا الموقف يمكن أن نقف عند الظاهرة الاجتماعية التي قام إميل دوركايم بدراستها دراسة تفسيرية وهي ظاهرة الانتحار  Le suicide. فقد كشف دوركايم عبر الإحصاء عن القانون المتحكم في هذه الظاهرة، وهو التماسك الاجتماعي. فالتماسك الاجتماعي كلما كان ضعيفا أو قويا أدى إلى الانتحار. فمثلا نجد أن نسبة الانتحار عند غير المتزوجين أقل مقارنة بنسبة الانتحار عند المتزوجين، كما أن المجتمع في حالة الرخاء يكون أكثر عرضة لحالات الانتحار مقارنة بحالة عدم الاستقرار لأن الناس في الحالة الأخيرة يكونون في حالة تماسك وتضامن. وحتى في حالة التماسك الاجتماعي القوي يمكن أن يقع الانتحار، والمثال على ذلك الذين ينتحرون بسبب فقدناهم لشخص ما.

وكما أنّه لا يسقط مطر إلا بعد توفر الشروط الموضوعية له، فكذلك الفعل الإنساني، لا يحدث إلا إذا استنفد كافة الشروط القبلية والموضوعية التي تدفع إلى بروزه على أرض الواقع. وهذا تأكيد على إمكانية دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة تفسيرية.

« لكن، ألا يمكن أن يؤدي اعتماد المنهج التفسيري إلى إفقار الظاهرة الإنسانية من خصوصياتها وإلى الحد من فعالية الباحث في العلوم الإنسانية؟

  • الموقف القائل بضرورة اعتماد الفهم بدل التفسير في دراسة الظاهرة الإنسانية.

إن القول بإمكانية تفسير الظاهرة الإنسانية لم يَلقَ ترحيبا من لدن مجموعة من علماء الإنسان، ولعل ما يُجمِع عليه هؤلاء، هو اختلاف الظاهرة الطبيعية عن الظاهرة الإنسانية من حيث الموضوع، وهذا الاختلاف ينتج عنه اختلاف آخر هو اختلاف المنهج.

من بين الذي تبنوا هذا الموقف، نجد الفيلسوف الألماني فلهلم ديلتاي (1833-1911م)، والذي أقام تمييزا بين علوم الطبيعة من جهة، وما يسميه به علوم الروح من جهة أخرى على مستوى الموضوع: فالأولى موضوعها الطبيعة الخارجية المعزولة عن الذات، والثانية موضوعها الذات الإنسانية الحية، واختلاف الموضوع يفترض اختلافا في المنهج. يقول ديلتاي في هذا السياق: “إننا نفسر الطبيعة، ونفهم الظواهر الإنسانية”. فإذا كان بإمكاننا دراسة الظاهرة الطبيعية دراسة تفسيرية، فإنه لا يمكن ذلك مع الظاهرة الإنسانية، بل ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل. لكن على ماذا يقوم المنهج التفهمي؟ يقوم المنهج التفهمي_التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل، والتي تتحدد بالقيم التي توجهها، ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات عبر التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة  في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في ذات الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها.

« لكن، ألا يمكن أن يؤدي اعتماد المنهجي التفهمي إلى طغيان ذات الباحث على الظاهرة المدروسة، حيث يصعب التمييز بين دلالات الذات الدارسة وبالتالي عدم الالتزام بمبدأ الحياد القيمي والموضوعية العلمية؟

  • الموقف القائل بكون العلوم الإنسانية تقف موقفا وسطا بين التفسير والتنبؤ

بين الموقف القائل بإمكانية التفسير والموقف القائل بعدم إمكانيته، يذهب كلود ليفي ستراوس إلى التأكيد على أن العلوم الإنسانية تقف موقفا محرجا؛ فالعلوم الإنسانية –كما يقول- “تجد نفسها في وسط الطريق بين التفسير والتنبؤ، كما لو كانت عاجزة عن السير في اتجاه التفسير أو في اتجاه التنبؤ”. فالعلوم الإنسانية لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا، كما أن تنبؤها ليس يقينيا.

وهنا ينطلق ستراوس من مقارنة بين العلوم الدقيقة والطبيعية وبين العلوم الإنسانية، فالأولى تطورت نتيجة التكامل بين عمليتي التفسير والتنبؤ، والمثال على قدرة تلك العلوم على التفسير، ما فعلته الداروينية (نسبة إلى دروين) حيث استطاعت تفسير ظاهرة تطور الأنواع الحية، والمثال على قدرتها على التنبؤ حين تكون عاجزة على التفسير، ما يحدث في علم الأرصاد؛ حيث يمكنها التنبؤ بمجموعة من الظواهر. لكن العلوم الإنسانية لت تستطع ذلك، أي أنها لا تستطيع تفسير ظواهرها تفسيرا كاملا، كما لا تستطيع التنبؤ بها تنبؤا يقينيا.

رغم هذا الموقف المحرج للعلوم الإنسانية، إلا أنها ليست بغير أهمية، فبتفسيرها المحدود، وبتنبؤها غير اليقين، فهي “تقدم للذين يمارسون انطلاقا من نتائجها، شيء وسطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة، اي نوعا من الحكمة التي تسمح بتحسين الأداء، لكن من غير الفصل النهائي بين التفسير والفهم.

  • تقويم : املأ الجدول التالي باعتماد عبارات مختصرة
المنهج المضمون الأهمية الحدود
 

 

 

 

  • خلاصة تركيبية

إن البحث في مسألة علمية العلوم الإنسانية، قادنا إلى جملة من الخلاصات، لعل أبرزها اختلاف علماء الإنسان والإبستمولوجيين حول طبيعة المنهج الذي يمكن اعتماده في دراسة الظاهرة الإنسانية، وإن كان هذا المنهج هو منهج التفسير أم منهج الفهم. فقد أكد البعض على إمكانية التفسير، مبررين ذلك بعدم وجود اختلاف بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية، وبالتالي إمكانية دراستها دراسة تفسيرية كما تدرس الظواهر الطبيعية. بينما ذهب البعض الآخر إلى القول بعدم إمكانية اعتماد التفسير، نظرا لاختلاف الإنسان عن الأشياء، وبالتالي وجب اعتماد الفهم فقط بما هو تأويل وفهم للدلالات والمقاصد… وبين هؤلاء وهؤلاء ذهب فريق آخر إلى كون العلوم الإنسانية تقف موقفا محرجا، فهي تارة تعتمد التفسير وتارة أخرى تعتمد التنبؤ.

وفي الأخير لا يمكن إلا أن نؤكد، أن العلوم الإنسانية، سواء اعتمدت التفسير أو اعتمدت الفهم، فهي تبقى ذات أهمية وقيمة علمية، نظرا لنشأتها المتأخرة، ولأنها أيضا تفسح لنا المجال لدراسة الإنسان في مختلف جوانبه الاجتماعية والنفسية الثقافية والسياسية…

 

إغلاق