درس مفهوم الغير (مجزوءة الوضع البشري)

المادة مادة الفلسفة
المستوى الثانية بكالوريا
الدورة الدورة الأولى
المجزوءة مجزوءة الوضع البشري
المفهوم مفهوم الغير

درس مفهوم الغير (مجزوءة الوضع البشري)

هذه الورقة هي تتمة لورقة دروس في الفلسفة التي أنجزها الفريق التربوي لمادة الفلسفة بجهة فاس-بولمان، والتي تتناول المجزوءة الأولى: مجزوءة الوضع البشري، من خلال المفاهيم الثلاث: مفهوم الشخص، مفهوم الغير مفهوم التاريخ.

مدخل :

لا خلاف في أن الإنسان مادام كائنا اجتماعيا فليس بمقدوره أن يعيش وحيدا في هذا العالم. فهو محتاج للغير/الآخر. وحاجته للغير لا تقف في بحثه فقط عن من يسانده لتحقيق مشاريعه ومن يتعاون معه في معالجته لجملة من الصعوبات التي يطرحها أمامه واقعه اليومي. وإنما فضلا عن ذلك فهو يبحث عن من يعترف به أولا أنه موجود فعلا ومن يشاركه ذلك الوجود. فانفعالات الشخص وعواطفه وأحكامه واكتشافاته لا قيمة لها دون أن يكون الأخر شاهدا عليها وضامنا لها. وهذا ما يترجم إلى حاجة الفرد للتواصل بوصفها ضرورة ملحة. ومن هنا تتأسس نظرتي للغير بوصفه إما شبيها لي لكونه يشاطرني نفس الآراء والمواقف وتحركنا انفعالات وتعاطفات متشابهة. أو غريبا عني لأنه يخالفني في الرأي في وضعيات معينة، أو يختلف عني في معتقداته وثقافته وتوجهاته. وفي هذا فإنني أبدأ بتلمس نوع من الغرابة في سلوكه والتمايز في نظرته للعالم. الشيء الذي يشكل بؤرة لخلاف بيني وبينه وبداية لتصرفات عدوانية وعنيفة اتجاهه. وتأسيسا على ما سبق نفهم أن الغير يحمل معاني متناقضة. فهو أنا الآخر وآخر غير أنا. بمعني هو شبيه ومختلف عنى، قريب وبعيد عني، مألوف وغريب عني. أنه يعكس صورة مليئة بالتناقضات والألغاز. صورة تجذبني إليها تارة وتثير حيرتي وجزعي تارة أخرى. وبناء على ما سبق تطرح الأسئلة التالية :
مادام الغير مفهوما إشكاليا يثير معاني متضاربة. فهل معرفته ممكنة؟ وبواسطة أية آلية يمكن معرفته؟ هل بشكل مباشر بقياس ذاته إلى ذاتي؟ أم بشكل غير مباشر بالتعامل معه كموضوع للإدراك؟ أم بالتفاعل معه؟
هل يصح اعتبار وجود الغير شرط لوجودي أم تهديد لهذا الوجود؟ أي علاقة أخلاقية يمكن اعتمادها مع الغير؟ وإلى أي حد يمكن الإبقاء على علاقة تصالحية معه تأخذ أرقى أشكالها في الصداقة على اعتبار أنها فضيلة وواجب أخلاقي؟

 هل وجود الغير شرط لوجود الأنا أم تهديد له؟

تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الغير بوصفه مفهوما فلسفيا إشكاليا لم يتبلور بشكل واضح إلا مع الفلسفة الحديثة وبخاصة مع هيغل. وقبل ذلك وبدءا من الفلسفة اليونانية وحتى بداية الفلسفة الحديثة فقد سيطرة نزعة فلسفية ترى أن الأنا هي الوحيدة الموجودة في العالم  ( Solipsism ) وهي مصدر كل اليقينات والمعارف ولا تحتاج للآخر في تحديد وجودها أو تعريف ذاتها ويبدوا ذلك جليا من خلال المذهب السقراطي القائم على مقولة “إعرف نفسك بنفسك” والذي كان له بالغ الأثر على فلسفة ديكارت الذاتية القائمة على الكوجيطو التالي “أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود “. فالذات عند ديكارت تتعرف وتعي ذاتها لا بلجوئها إلى الغير وإنما بركونها إلى ذاتها. فديكارت يشك في كل شيء في وجود الأخر والعالم الذي يحيط ولكن لا يستطيع أن يشك في وجوده الذاتي. فأنا أفكر هو اليقين الوحيد  الذي لا يستطيع الشك أن يقتحمه. ففي تأملات ديكارت الميتافيزيقية حتى الأشياء التي أدركها بحواسي أو أتخيلها ليس لها وجود خارج ذاتي وأناي.
إجمالا إن وجود العالم والآخرين يظل إشكالا قائما في فلسفة ديكارت. فهذا الفيلسوف في قمة ارتيابه يشك في وجود ذوات واعية أخرى تحيط به إذ يقول : “نعم أرى أجسادا تتحرك أمامي وتتحدث ولكن بأي حق وانطلاقا من أي دليل أستطيع أن أتيقن من كون هاته الأجساد ذواتا واعية. فأنا متأكد فقط بأنني كائن واع لأن وعيي هو ما أستطيع أن أعيشه بشك مباشر. أما ما أراه من مشاهد بشرية أمامي، فأنا غير متيقن هل هي وهم، خيال أم واقع، حلم أم يقظة”. من هنا يتضح أن ديكارت تعرف على ذاته لا من خلال الآخر وإنما عبر تجربة عزلة وجودية مطلة. الشيء الذي دعا شوبنهاور إلى أن يوجه له هذا الانتقاد الحاد والذي قال فيه ” هذا المجنون سجن الذات في حصن منيع لا يمكنها النفاذ منه”. كما أكد فوكو في الفلسفة المعاصرة أن أنا المفكر لدى ديكارت قد أقصت قضايا لها دور في تحديدها وهي التاريخ والمجتمع والغير.
وبناء على ما سبق، أسس هيغل في كتابه فينومينلوجيا الروح فلسفة جديدة مضمونها أن الإقرار بوجودي ينبني على الاعتراف بوجود الغير . لكن كيف ذلك؟ إن أخذ الاعتراف من طرف الأخر بكوني موجود بالفعل ليس أمرا هينا وإنما يأخذ شكل مواجهة شرسة مع الآخر. ومرد هاته المواجهة الصراع التاريخي القديم الذي كان بين شعورين. والذي يوضح كيف أن كل ذات على حدة تريد تريد أن تعي ذاتها وتتعرف عليها لا بالركون إلى ذاتها وإنما من خلال موضوع غريب عنها. بمعنى أن كل ذات ترغب في أن يعترف بوجودها من طرف ذات أخرى تواجهها. ولكن أن يعترف بها كسيد وبالتالي يتم الإعتراف بالذات الثانية كعبد. ومن هنا برزت تلك المواجهة الشرسة بين الشعورين. وفي قمة الصراع وأوجه يخاطر كلا الشعور بحياتهما بالابتعاد عن الرغبة العضوية/ الحياتية، للا يصبحا عبيدا لتلك الرغبة أي ليظلا ذواتا مستقلة عن الرغبة… رغم أنها تعمل على استمالتهما وجذبهما إليها. لكن أحد الشعورين لا يستطيع مقاومة الرغبة ويصبح عبدا لها وبالتالي عبدا للسيد.
ما يخلص له هيغل أن الذوات البشرية هي سجينة يقينات ذاتية بوجودها وما تحتاجه هو اعتراف موضوعي وبكونها أنوات موجودة بالفعل من طرف الغير. لكن هذا الاعتراف الذي تبحث عنه كل أنا كونها أنا مستقلة وواعية وسيدة. الشيء الذي يلزمها بالدخول في صراع أنطلوجي مع الآخرين. ينتهي بانتصار أحد المحاربين والإبقاء على حياة الآخر ليعترف به كسيد ويقر أنه عبد له.
وتأسيسا على موقف هيغل نفهم أن علاقة الأنا بالغير هي علاقة صراع تهدف إلى تحويل أحد أطراف الصراع إلى عبد أو إلى موضوع. الشيء الذي دعا الفيلسوف هيدغر إلى اعتبار الغير أو الأخر تهديدا لوجودي الذاتي. فمعلوم أنني كذات أصيلة وفريدة موجود مع وهذا الإحساس الذي ينتاب وجودي مع الآخرين ينفي التشابهات التمايزات القائمة بيني وبين الآخرين ويجعلني أعتقد أن ذاتي تشبه ذواتهم، مما يجعلني أتقبل علمية التنميط الشخصي وفقا لنماذج شخصية قائمة لدى الآخرين. و الآخرين. أنني في هاته اللحظة قد بدأت أفقد وجودي بوصفه وجودا أصيلا لصالح الوجود الزائف . هكذا يصبح خطابي وسلوكاتي وحركاتي عبارة عن استجابة لما ينتظره الآخرون مني. إنني بهذا اسقط في عالم الشيئية ويصبح وجودي الذاتي المتميز يصرف في ضميرهم.
وتأسيسا على ما سبق نفهم أن الإنسان بحسب هيدغر أصبح يعيش في العصر الحديث حالة جماعية زائفة، لأنه قد اتخذ من الوجود مع الآخرين ذريعة للتنازل عن وجوده الخاص، فلم يعد وجوده الخاص سوى مجرد انغماس في عالم الجمهور. هكذا فقد إنسان العصر الحديث حريته وصار مجرد موضوع ينطق بلسان الآخرين . وعليه الاختيار إذن وهنا الاختيار صعب، بين وجود أصيل وحقيقي والمتمثل في الذات القائمة بذاتها والمسؤولة عن ذاتها ووجود زائف والمتجلي في ذات غريبة على ذاتها فقدت حريتها وأصبحت تحيي لحساب الآخرين ومن هنا فقد هبطت إلى مستوى الموضوع. فانغمست مع الجماعة آملة من وراء ذلك التهرب من حريتها والتنصل من مسؤولياتها والتخلص من الشعور بالقلق.
الناس/ الغير يشكلون سلطة جمعية غير شرعية تسلب الذات شعورها بالمسؤولية . وهنا يجد الإنسان نفسه مدفوعا إلى التخلي عن التزامه الشخصي فيأخذ بأحكام الآخرين ، ويتمسك بالتوسط في الأمور ويدين بكل ما يدين به الجمهور. وعندئذ سرعان ما تصبح حياته الشخصية صورة من صور الجمهور. وسرعان ما يهبط الوجود الذاتي الخاص إلى هذه الدرجة العامية المبتذلة فهناك لا يعود المرء يعلق أدني أهمية على مسؤوليته الشخصية بل يوجه كل هتمامه نحو تلك المشاعر العادية التي قد تعينه على الانصراف نهائيا عن التفكير  عن التفكير في مصيره الحقيقي.
هكذا الآخر مهدد لوجودي لكونه يجذبني للاغتراب عن ذاتي ( Entfremdung ) والانحدار إلى مستوى الشيئية والتنازل عن الوجود الحقيقي الأصيل. إن الإنسان إجمالا معرض لخطر السقوط أي خطر الاغتراب عن الذات والسقوط في عالم الموضوعات ( Vefall ).
 لكن رغم سلبية هذا الأخر المتمثلة في تهديده الوجودي فهو يظل حسب هيدغر مهما. فالوجود مع الآخرين هو من مقومات الموجود الإنساني. إن الذات لا تجد نفسها مهجورة قد خلى بينها وبين وجودها الخاص فحسب، وإنما هي تجد نفسها في عالم آخر الذي لا بد أن تتعامل معه وتعيش بجواره. والشعور الفردي الذي قد ينتابنا ليوهمنا بأننا موجودين لوحدنا دون الآخرين إنما يبرز فوق أرضية شعورنا الجماعي مع الغير. هذا ما يعبر عنه هيدغر بقوله ” إن الوجود بدون الآخرين هو نفسه صورة من الوجود مع الآخرين”.
وعلى غرار تصور هيدغر لعلاقة الذات بالغير يرى سارتر أن الآخرين على الرغم من كونهم يشكلون تهديدا لخصوصياتي فإنهم يمثلون وسيطا ضروريا ومرجعا أساسيا لمعرفة أناي . فعبر الآخر فقط أستطيع أن أدرك أن لدي وجود موضوعي وواقعي وعبر الآخر فقط أتمكن من تحقيق معرفة حول ذاتي.
ويبقى أن نشير بحسب سارتر أن علاقي الأنطولوجية بالغير تقودني دائما إلى الرغبة في تجاوزه والتعالي علية ومفارقته وجعله موضوعا لتأملي الخالص، نفس الرغبة نجدها لدى الغير نحوي والمتمثلة في رغبته التعالي علي وجعلي موضوعا لتأمله الخالص. فالأمر هنا لا يخرج عما سبق وأن أكده هيغل عن منطق من يشيئ من ومن يحول من إلى موضوع، فهناك منطق صراعي قائم بيني وبين الآخر.
وأحد مظاهر الصراع القائمة بيني وبين الآخر يجسدها سارتر في تجربة النظرة . فالأشخاص الذين أنظر إليهم أقوم بتحويلهم إلى أشياء وإلى موضوعات للدراسة والتقصي. إنهم يصبحون مضطهدين بأحكام القيمة التي أصدرها عليهم، وفي ذات الوقت عندما ينظر إلي شخص فإنني أحس بانزعاج شديد بأن حريتي مهددة من طرف الآخر. ويتجلى ذلك بوضوح في كون الإنسان عندما يكون لوحده يتصرف بعفوية وتلقائية وحرية دون قيد حتى تتجمد حركته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها.
فأنا في وضعية خجل وخوف من أن أفقد حريتي ، بمعنى أن أأاصبح موضوعا أو شيئا يتصفحه الآخر. وهنا يظل الآخر بالنسبة لي يشكل الآخر جهنم. لكن مع ذلك فإن هذا الصراع يظل ضروريا من أجل أن تحقق الأنا وعيا بذاتها بوصفها ذاتا حرة ومتعالية وتلقائية.
يبدوا أن هذه الخلاصة التي انتهى إليها كل من هيغل وهيدغر وسارتر لم تخرج في جانب كبير منها عن تلك الرؤية التقليدية الميتافيزيقية التي ترى إلى أن الوجود موزع إلى أزواج من الثنائيات المتصارعة فيما بينها ( خير/ شر، ذات/ موضوع، أنا/ أخر، ظاهر، باطن). بينما علاقة الأنا بالآخر كما يقول ماكس شيلر هي علاقة كلية أي علا موحدا لا يقبل التجزئة ولا الانقسام إلى ذات وموضوع وعبد وسيد “فإن أول ما ندركه من الناس الذين نعيش معهم ليست أفكارهم ولا أجسادهم ولا نفوسهم فإن أول ما ندركه هو مجموعة لا تنقسم ولا تتجزأ وعلينا ألا نسارع إلى تجزئتها إلى شطرين”.

إغلاق