ملخص مجزوءة الأخلاق: مفهوم الواجب، مفهوم السعادة، مفهوم الحرية إعداد الأستاذ: يوسف المداح

ملخص مجزوءة الأخلاق: مفهوم الواجب، مفهوم السعادة، مفهوم الحرية  إعداد الأستاذ: يوسف المداح
  1. ملخص مجزوءة الأخلاق: مفهوم الواجب، مفهوم السعادة، مفهوم الحرية
  2. إعداد يوسف المداح، أستاذ مادة الفلسفة المديرية الإقليمية جرسيف
  3.  خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس.
  4. طالب باحث بسلك الماستر “الهشاشة والسياسات الاجتماعية”.

مدخل إشكالي

ليس الإنسان كائنا عاقلا، تايخيا، أو سياسيا فحسب، بل إنه كائن أخلاقي أيضا. من هذا المنطلق شكلت الأخلاق وما تزال إحدى المباحث الأساسية التي اهتمت بها الفلسفة. إذن ما المقصود بالأخلاق؟. يشير مفهوم الأخلاق في دلالته العامة إلى مجموع القواعد والمبادئ التي يميز الإنسان انطلاقا منها بين الخير والشر، الفضيلة والرديلة، الحسن والسيء، وبذلك يطلق لفظ الأخلاق على جميع الأفعال الصادرة عن النفس محمودة كانت أم مذمومة، ويمكن التمييز في الأخلاق بين: أخلاق نسبية: وهي مجموع القواعد السلوكية المقبولة في عصر أو جماعة بشرية ما، ذلك أن لكل مجتمع أخلاقه. وأخلاق مطلقة: وهي مجموع قواعد السلوك الثابتة التي تصلح لكل زمان ومكان. هذه الأخلاق الأخيرة هي ما تهمتم به الفلسفة في إطار ما يسمى بالفلسفة الأخلاقية، كحكمة تفسر معنى الخير والشر وتميز بين الفضائل وكيفية اقتنائها، ومعرفة الرذائل للتنزه والابتعاد عنها، أي أنها فلسفة تهتم بتحديد ما يجب أن يكون، لا وصف ما هو كائن في الواقع. تعتبر الأخلاق إذن بمثابة ضابط يحد من اندفاع الشخص وميوله، فالقواعد الأخلاقية تنطوي على عنصري الإكراه والإلزام وهو ما يعبر عنه مفهوم الواجب الذي يحيل إلى ما هو مقابل للحرية، حرية التصرف وفق ما تمليه الذات دون أي إكراه سواء كان داخليا أو خارجيا. لكن هذا المعنى لا يظل نفسه عندما يكون سلوك الفرد نابعا من قناعة ذاتية كإنصات للضمير الأخلاقي. هذا ويطمح الإنسان داخل هذه الجدلية (الحرية/الإكراه) إلى تحقيق الرضا والسعادة باعتبارها غاية وهدف كل إنسان. إذن:
  • هل يكون الإنسان سعيدا وحرا عندما يقوم بالواجب؟
  • ألا تحد الواجبات من حرية الإنسان؟
  • هل يمكن للواجب أن يحقق السعادة أم أنها لا يمكن أن تتحق إلا بالحرية؟

مفهوم: الواجب LE DEVOIR

تقديم إشكالي:

 يحيل الواجب فلسفيا على تلك القاعدة التي يكون الشخص بموجبها ملتزما تجاه شخص أخر بأن يفعل أو يمتنع عن شيء ما، وهنا يكون الواجب ذو مضمون قانوني، أما الواجب في معناه الأخلاقي فيشير إلى القدرة على التمييز بين الخير والشر، والسلوك وفق ما تقضيه القواعد والضمير الأخلاقيين، فالواجب بهذا المعنى هو ما يتعين على المرء القيام به ضمن شروط محددة. والواجب حسب معجم لالاند نوعان: واجب بمعنى مشخص، ويهم حياتنا اليومية باعتبارنا أعضاء في مجتمع، كواجبات الموظف أو الأب أو المتعلم…إلخ، وواجب بمعنى مجرد ويتعلق أساسا بالمجال الأخلاقي كواجب التعاون مع الغير ومختلف أشكال التعاطف والتضامن والمساعدة والاحترام. تتجاذب مفهوم الواجب إذن مجموعة من المفارقات، حيث يتراوح بين الحرية والإكراه، الإلزام والالتزام، الضمير والمجتمع، الطبيعة والثقافة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن أصله ومصدره، إضافة إلى علاقته بالمجتمع وقيمه. إذن: هل الواجب إلزام أم التزام؟ كيف يتشكل الواجب الأخلاقي؟ وما هو مصدره؟ وما علاقة الواجب الأخلاقي بقيم المجتمع وضوابطه؟



المحور الأول: الواجب والإكراه

تقديم إشكالي

من البديهي أننا كلما استحضرنا مفهوم الواجب إلا ويتبادر إلى ذهننا مفهوم الإكراه، فالواجب ضروري من حيث أنه يحيل إلى ما يتعين على المرء القيام به، سواء كان أساسه التزام الذات بالقيام بفعل ما عن وعي وحرية داخلية تلزم نفسها به عن طواعية وقناعة ومسؤولية، أم  كان مصدر هذا الإكراه إلزاما خارجيا تفرضه قيم المجتمع وقواعده. إذن:
كيف تتحدد علاقة الواجب بالإكراه؟ ومن أين يستمد الواجب قوته؟ هل من نداء العقل والضمير الأخلاقي أم من الإكراهات والضغوط الاجتماعية الخارجية؟ بمعنى آخر هل نقوم بالواجب لأجل ذاته، أم لأجل ما يترتب عنه من نتائج؟

 

مستوى التحليل: موقف إيمانويل كانط “الواجب أمر أخلاقي قطعي”

 

يرى إيمانويل كانط أن الواجب الأخلاقي يعبر عن اختيار أخلاقي يدخل في صميم ممارسة الإنسان لحريته باعتباره كائنا عاقلا ومسؤولا، إنه إلزام داخلي مطلق نابع عن إرادة حرة وواعية (التزام)، لا ينبغي على الأفراد التعامل معه بمنطق ما يحققه لهم من منافع، بل باعتباره غاية في ذاته وشرط إشاعة القيم والفضائل الإنسانية السامية، فالواجب مرجعه العقل وغايته فقط احترام القانون الأخلاقي الذي يشرعه بناء على الإرادة الخيرة.
قيمة الموقف وحدوده
تكمن قيمة موقف إيمانويل كانط في نقده ومحاولة تجاوزه لكل الاتجاهات النفعية التي كانت  تعطي الأخلاق والواجب بعدا نسبيا وأداتيا من خلال إرجاعها الفعل الأخلاقي إلى مصدر خارجي كالمجتمع أوالمصالح، ومنه قولهم بوجود سلطة خارجية هي مصدر الإلزام الأخلاقي، مقابل محاولة تأسيسه للواجب على بعد كوني قطعي مطلق يخاطب الإنسان في كليته.
إلا أن فلاسفة الأخلاق قد آخدوا على فيلسوف الواجب نزعته الصورية وتجريده ومثاليته، مشبيهن تصوره لصرامة الواجب، بالواجب العسكري، وبذلك نتساءل: كيف يمكن تفسير اختلاف الواجب الأخلاقي من مجتمع لآخر؟ أليس ذلك دليل على نسبية الواجب وخصوصيته؟ أليس مصدر الواجب خارجي أساسه قيم المجتمع وقواعده؟ وأخيرا هل يمكن لشخص ما أن يقدم على فعل كيفما كان دون أن يكون محط رغبة أو ميل بالنسبة له؟
 

مستوى المناقشة: موقف إيميل دوركهايم “الواجب ليس إلزاما فقط بل محط رغبة أيضا”

يرى دوركهايم انه لا يمكن للمرء أن ينفي ما للمجتمع من سلطة في تحديد الواجبات وترسيخها، فإذا كان الواجب مع كانط أمرا أخلاقيا قطعيا، فإن دوركهايم يتفق معه في الإكراه الذي يتسم به الواجب على المستوى الداخلي، إلا أنه يعتبر أن الموقف الكانطي غير مكتمل، ذلك انه لا وجود لفعل يمكن للإنسان ان يقوم به فقط لكونه واجبا دون الاهتمام بنتائجه أو ما يحفز على القيام به، فكل واجب عند دوركهايم إلزام داخلي يؤطره الإكراه والمجهود الذي يمارسه الشخص على إرادته، وخارجي أيضا عندما يرتبط باستحسان المجمتع للسلوك أو شجبه، وهو يجعله مرغوبا فيه أو منفورا منه، فالمجتمع هو من يستحسن الفعل الأخلاقي مما يجعله مرغوبا فيه من طرف فاعليه. يقول «الصفة الأولى للفعل الأخلاقي هي الإلزام، لكن صفته الثانية الملازمة هي كونه محط رغبة».

تركيب المحور

عامة يمكن القول أن الواجب الأخلاقي قد يتخذ شكل التزام داخلي نابع عن الإرادة المنصتة لصوت العقل والضمير الأخلاقي، كما قد يأخذ شكل إلزام وإكراه خارجي تفرضه ضوابط المجتمع وقيمه، من خلال ثنائية الترغيب والترهيب التي عن طريقها يتحدد للفرد ما يتعين عليه القيام به، هذا ويمكن لهذا الإلزام الخارجي أن يصبح جزء من الإرادة الذاتية للأفراد حينما يصبح الواجب محط رغبة أيضا.



المحور الثاني: الوعي الأخلاقي

تقديم إشكالي

إذا كان الوعي هو ذلك الحدس الذي تدرك من خلاله الذات ذاتها والعالم المحيط بها، فالوعي الأخلاقي يمثل تلك الخاصية التي تسمح للعقل الإنساني بأن يصدر أحكاما معيارية عفوية على القيمة الأخلاقية للأفعال الإنسانية ، من خلال التمييز فيها بين الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، المباح والممنوع. إذن فكيف يتشكل الوعي أو الضمير الأخلاقي؟ وما هو مصدره؟ هل هو فطري متأصل في الإنسان، أم أنه مكتسب وناشئ عن  ثقافة المجتمع وقيمه؟

 

مستوى التحليل: موقف جون جاك روسو “الواجب أمر أخلاقي قطعي”

 

يرى جون جاك روسو أن أصل الوعي الأخلاقي يوجد في عمق النفس الإنسانية الخيرة، ذلك أن أساسه فطري غريزي من خلاله يتمكن المرء من تمييز الخير عن الشر، فالإنسان خير بطبعه وكل ما يصدر عن الطبيعة فهو خير، وما المفاسد التي صارت جزء من طبيعته سوى سلوكات وأفعال اكتسبها وتلقاها عن طريق المجتمع والتي حولته إلى كائن شقي. ومن ثمة فالوعي الأخلاقي لا ينتج عن مصدر خارجي، كالعادات والتقاليد الاجتماعية، التي من شأنها أن تفسد الميول الخيرة في فطرة الإنسان، بل إن أساس الوعي الأخلاقي هو الفطرة الإنسانية الخالصة والنقية.
قيمة الموقف وحدوده: من الواضح أن هذا الموقف يكتسي قيمة فلسفية كبرى إذا نظرنا له من زاوية تأسيسه للوعي الأخلاقي على منظور كوني يخاطب من خلاله الإنسان في كليته طامحا إلى جعل الخير سمة لصيقة بالإنسان، متجاوزا بذلك المواقف التي كانت تؤسسه على قيم المجتمع ومؤسساته على اعتبار أن هذا الأساس سيجعل من الأخلاق قيما نسبية ومتغيرة.
 لكن إذا كان مصدر الوعي الأخلاقي فطريا فكيف نفسر اختلافه من مجتمع لآخر؟ ولماذا يسود الشر وينتشر إذا كان الإنسان خيرا بطبعه؟ وبالمقابل ألا يثبت واقع الحال أن مصدر الوعي الأخلاقي هو ما يتلقاه الفرد عن طريق التنشئة الاجتماعية التي يعمل من خلالها المجتمع على تحديد ما هو خير وما شر من خلال ثنائية الثواب والعقاب؟

مستوى المناقشة: موقف سيغموند فرويد

على خلاف التصورات التي تعتبر أن أساس الوعي أو الضمير الأخلاقي يوجد في الفطرة الإنسانية الخيرة، يرى المحلل النفساني سيجموند فرويد أن الإنسان عدواني وشرير بالطبع، لذا فإن عيشه ضمن تجمعات لم يتم إلا تحت يافطة الإكراه، ليؤكد على أهمية العوامل النفسية اللاشعورية المرتبطة بالممنوعات التي رسختها الثقافة والمجتمع من خلال عمليتي الجزاء والعقاب لترسيخ هذا الوعي. ومنه فإن الضمير الأخلاقي حسب فرويد مكتسب تفرضه سلطة خارجية متمثلة في أوامر ونواهي «الأنا الأعلى» من خلال عملية الرقابة التي يمارسها على رغبات «الهو» بواسطة الوعي أو «الأنا»، هذه الهيئة التي تعمل على تحقيق التوازن والانسجام بين القيم والمبادئ من جهة، وبين الأهواء والرغبات من جهة ثانية، مع مراعاة مدى توافقها مع مبدإ الواقع.
قيمة الموقف وحدوه: تكمن قيمة هذا الموقف في محاولة إيجاده لتفسير علمي لمنبع ومصدر الوعي الأخلاقي، هذا التفسير الذي ربط بين الأنا الأعلى كصوت داخل الذات ينطق بلسان المجتمع، من هنا يتضح أن رهان فرويد هو التأسيس للوعي الأخلاقي على معطيات نفسية واجتماعية مكتسبة قادرة على تفسير تعدد واختلاف الواجبات الأخلاقية من مجتمع لآخر. لكن ألا يتعارض هذا الموقف مع ابتعاد المرء عن الشر وإقباله على الخير رغم اختلاف وسط تنشئته ونموه؟ ثم أليس فرضية فرويد هذه حول البنية الثلاثية للشخصية وحول اللاشعور مجرد فرضية قابلة للدحض؟
 

تركيب المحور:

 انطلاقا مما سبق نستنتج أن هناك اختلافا وتباينا حول أصل ومصدر الوعي الأخلاقي، فبين الفطرة الخيرة للإنسان والقانون الأخلاقي كما وضحت الفلسفات التقليدية، وبين ما ذهبت إليه العلوم الإنسانية من خلال ربطها للوعي الأخلاقي بعوامل نفسية واجتماعية أساسها التربية والتنشئة الاجتماعية، تمتد مسافة مقاربة هذه الإشكالية.

المحور الثالث: الواجبب والمجتمع

تقديم إشكالي

ليس الواجب مسألة فردية ذاتية، ولا هو شأن خاص أو خصوصي، بل إنه في العمق شأن اجتماعي، إن لم نقل إنساني أيضا، لكن قبل ذلك لابد من التساؤل:
أية علاقة تربط الواجب بالمجتمع؟ وهل ينطوي الواجب على أبعاد  خصوصية محلية ونسبية، أم على خواص كونية شمولية ومطلقة؟ وعندما يتعارض ما يفرضه الواجب المجتمعي مع الواجب تجاه الإنسانية، ألا يكون من الحكمة العصيان والتمرد؟

مستوى التحليل: موقف إيميل دوركهايم “سلطة المجتمع”

يعتبر الواجب الأخلاقي في نظر دوركهايم تجسيدا لسلطة المجتمع، إنه مصدر جميع القيم الأخلاقية وعلى رأسها الواجب، إذ يعمل على ترسيخها عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية التي تعمل على تشكيل ما يسمى بالضمير الجمعي كأفق محدد لكل قيم المجتمع وفضائله، ومن خصائصه أنه ملزم ومستقل ومتعال عن الضمائر الفردية، رغم أنه مشكل منها. وبهذا فالواجب حسب دوركهايم ينطوي على أبعاد خصوصية محلية ترتبط بكل مجتمع على حدى. يقول «الضمير الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع ولا يعبر إلا عنه».
قيمة الموقف وحدوده
تكمن قيمة موقف إيميل دوركهايم في معالجته لإشكالية الواجب الأخلاقي من خلال استحضار بعدها الواقعي، ليراهن على تجاوز النزعات الفردية لصالح المجتمع، فالجزء لا يساوي شيئا أمام مجموعه. وقد عمل دوركهايم بذلك على تجاوز مختلف التصورات التي كانت تؤسس الواجب الأخلاقي على ما هو كوني شمولي.
لكن ألا يتعارض الواجب القائم على الإكراه والإلزام مع الحرية الفردية؟ إلا يمكن القول أن مصدر الواجب هو اقتناع الفرد ووعيه بمسؤولية أفعاله؟ والأهم من ذلك اليس في ربط الواجب بقيم المجتمع ومحدداته تعارض مع الواجب الكوني، واجب الإنسان تجاه الإنسان في صورته الكونية؟

مستوى المناقشة: موقف هنري برغسون

على خلاف التصورات التي كانت تؤكد على خصوصية ونسبية الواجب الأخلاقي، يرى فيلسوف الطاقة الروحية هنري برجسون أن الواجب ليس تجسيدا لسلطة المجتمع فحسب، بل إنه يعبر عن ما هو إنساني، ذلك أن الاقتصار على الواجب كما يحدده المجتمع يظفي على الأخلاق طابع الخصوصية والنسبية، كما أن هذه الواجبات قد تؤدي إلى ممارسات مغلقة تتسم بالصراع والعنف المتبادل، وهذا ما دفعه إلى القول بضرورة انفتاح الواجب على ما هو إنساني وكوني، إنه واجب ينشد احترام حياة وحقوق الآخرين ويرفض الحرب والصراع والعداوة ليعوضها بالسلم والقيم الإنسانية المثلى.
قيمة الموقف وحدوه: تظهر قيمة هذا الموقف في كونه يفتح مجالا أوسع للتفكير في مسألة الواجب الأخلاقي، و متجاوزا بذلك النظرة التقليدية للأخلاق التي تحددها في بعدها المجتمعي الضيق، و التي تخضع لحتميات نفسية أو سوسيولوجية بحثة، مقابل الرهان على خلق وإقرار قيم أخلاقية كونية لا تعرف الحدود ولا تقف عند النهايات.

تركيب المحور

 وعامة فإن الإنسان باعتباره عضوا في جماعة، يتأثر بها ويؤثر فيها، يأخذ عنها قيمها الأخلاقية، ومن ثم فالمجتمع هو الذي يحدد الواجبات ويرسخها ويعمل بقوة على حفظها، إلا أنه لابد من الاعتراف بقيمة الانفتاح على الواجبات ذات البعد الإنساني. ذلك أن الاكتفاء بواجبات المجتمع قد تؤدي إلى خلق ممارسات منغلقة قد تولد الصراع بين المجتمعات، في حين أن التركيز على القيم الإنسانية من شأنه أن يساهم في توطيد العلاقات السلمية بينها.
 

مفهـــــــــوم: الســــعــــــادة

تقديم إشكالي

 ربما كانت السعادة القيمة الأخلاقية الوحيدة التي يطمح لاكتسابها كل الناس رغم اختلاف ميولهم وانتماءاتهم، لكن ورغم اتفاق الجميع في “البحث عن السعادة”، فإنهم يختلفون في البعد الدلالي لها إلى درجة يمكن معها القول أن هناك أشكالا من السعادة بقدر ما هنالك من أفراد، إذ ترى أغلبية الناس أنها تتعلق بأمور سهلة وواضحة مثل اللذة والثروة والمجد والشرف، ومع ذلك فهم يختلفون فيما بينهم على أيها أحق باسم السعادة. بل إن الشخص الواحد قد يرى السعادة في الصحة حينما ينزل به المرض، ثم يراها في المال حين يكون فقيرا معدما. إن كل إنسان إذن يريد أن يكون سعيدا، ولكي يصبح كذلك كما يقول “روسو” عليه أن يبدأ أولا بمعرفة ما السعادة؟
السعادة في اللغة مشتقة من فعل “سعد”، أي فرح واستبشر، والسعادة هي اليمن والرضا التام الذي تناله النفس من الخير، وهي نقيض النحس والشقاوة. أما اصطلاحا فيراد بها “حالة رضى تامة تستحوذ على الشعور بكامله”، أي أنها تحصل متى تمت تلبية حاجات وميول الإنسان كلها بنوع من الشمول والقوة والاستمرارية، وهي بهذا المعنى خاصة بالإنسان دون غيره، كما أنها تتميز عن اللذة والفرح كونهما لحظيان ومؤقتان.
  • إذن: هل السعادة واقع يمكن أن يعاش أم أنها مجرد وهم؟
  • إذا كانت السعادة مطلب الجميع فكيف السبيل إليها؟
  • وما علاقة السعادة بالواجبات الأخلاقية؟




المحور الأول: تمثلات السعادة

 

تقديم إشكالي

يحيل التمثل إلى تلك العملية الذهنية التي يستحضر بواسطتها الإنسان ما هو غائب على شكل صورة حسية جزئية تواقف رغباته وأحاسيسه، وقد توافق ما هو شائع من آراء، وتمثل السعادة بوصفها غاية يسعى إليها كل إنسان  مضمون وفحوى هذا التمثل، غير أنه يصعب إعطاء السعادة مضمونا محددا، ذلك أن كل فرد يتمثل السعادة على نحو خاص كما لو أن لكل واحد سعادته، بل إن الفرد الواحد قد يغير نظرته لما قد يعتبر سبب سعادته بحسب تغير أحواله وظروفه. إذن:
هل للسعادة معنى واحد خلف تعدد تمثلاتها؟ وهل لها مدلول واحد أم أنها تختلف باختلاف الافراد؟ وهل يرتبط تحصيلها بالجسم واللذة وبما هو مادي أم بالعقل والتأمل وبما هو روحي؟ وقبل ذلك هل السعادة واقع فعلي يمكن أن يعاش أم أنها مجرد وهم وخيال؟
 

مستوى التحليل: موقف أرسطو

يرى أرسطو أن كل الناس يتفقون أن السعادة هي الغاية القصوى لكل فعل إنساني، إلا أن تمثلاتهم لمضمونها ومظاهرها وسبل بلوغها تختلف باختلاف الأفراد، فمنهم من يعتبر أن اللذة والمتعة الجسدية هي أساس السعادة، إلا أنها لذة يشترك فيها الإنسان والحيوان، وهي مؤقتة، لذا فتحصيلها في نظر أرسطو ليس من السعادة في شيء، وهناك فئة أخرى(الطبقة السياسية) التي ترى أن السعادة مقترنة بالمراكز والتشريفات، إلا أنها مهددة دوما لأنها متوقفة على الناس الذين يمنحونها أو يسلبونها، وبذلك فهي ليس خيرا في ذاتها. ومقابل هذين التمثلين توجد السعادة العقلية التي ترمي إلى تحقيق الفضيلة من خلال العمل بمقتضى الحكمة والتأمل، أنها سعادة دائمة ومستمرة ومتطابقة مع تحديدها باعتبارها الغاية الأسمى التي لا غاية وراءها.
قيمة الموقف وحدوده:
 تكمن قيمة موقف أرسطو في استحضاره لمختلف  تمثلات السعادة، مع محاولته الارتقاء بالمملكة الإنسانية فوق المستوى الحيواني عبر رفضه للذة كأساس للسعادة، بهدف تأسيسها على قواعد ثابتة، كما أن السعادة في نظره تحتاج لكثير من الجهد لتحصيلها. ومنه فالسعادة لا تنتقى إلا باعتبارها الخير الأسمى وغاية الغايات.
لكن ألا يعتبر تفييئ أرسطو لمراتب السعادة بهذا الشكل تبريرا للتفاوت والطبقية بين الناس حتى على مستوى تحصيل السعادة؟ وهل يمكن للعقل فعلا أن يقدم تمثلا واضحا للسعادة؟ وهل يستخدم الناس عقولهم بنفس الكيفية ليصلوا إلى مدلول موحد حولها؟ ألا يمكن للظروف والحيثيات أن تتحكم في تمثل المرء للسعادة، إلا يرى المريض سعادته في الصحة؟ ثم أليست السعادة العقلية، التي تحتاج إلى مجهود جبار لبلوغها، ضربا من الوهم والخيال؟ وبالمقابل ألا يمكن للذة والمتعة أن تكون طريقا لتحقيق السعادة؟

مستوى المناقشة: موقف إيمانويل كانط

على خلاف التصور الأرسطي المؤسس للسعادة على ما هو روحي عقلي رافضا ربطها باللذة والمتعة، ومؤكدا على إمكانية تحصيلها، يرى إيمانويل كانط أن السعادة مشكلة بدون حل، لأنها ليست صادرة عن العقل بل عن الخيال، وما هو صادر عن الخيال لا حدود له، كما أن النتائج المترتبة عنه لا نهائية، لهذا السبب لا يمكن ملاحقة ما لا ينتهي. وعليه  يستحيل تحديد مفهوم السعادة أو حصر مختلف تمثلاته وتجلياته، لأنها فعل شخصي وإحساس تجريبي يعيشه كل فرد بطريقته الخاصة، وما قد يسعد شخصا لن يسعد شخصا آخر بالضرورة. إن السعادة حسب كانط مفهوم غامض يحمل أبعادا خيالية تقترب من الوهم قدرابتعادها عن العقل. يقول: “السعادة مثل أعلى لا للعقل بل للخيال“.
 

تركيب المحور

نستنتج مما سبق أن مفهوم السعادة يحمل بين ثناياه إشكالا فلسفيا عميقا، فإذا كان البعض يعتبر أن السعادة رهينة بالفضائل الأخلاقية والحياة العقلية، أو باللذات الروحية والمتع الحياتية كما يؤكد فريق آخر، فإن هناك من يرى في تعدد تمثلات السعادة دليلا على أنها مجرد وهم وخيال، ومن المستحيل تقديم تصور دقيق حول معناها وكيفية تحقيقها.

 

المحور الثاني: البحث عن السعادة

 

تقديم إشكالي

إذا كانت السعادة فكرة أو طموحا أو مثالا، فإنها وفي جميع هذه الحالات تظل دوما القوة الدافعة والموجهة للفعل الإنساني في الوجود، وإذا كان الأمر على هذا النحو فلابد من شروط لتحقيقها، ومن سبل يمكن أو يحب سلكها لتحصيلها وعيشها.
فهل السعادة حقيقة يمكن أن تعاش أم أنها مجرد وهم؟ وهل السعادة ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا كانت ممكنة فما السبيل لتحقيقها؟ هل من خلال ما هو مادي، جسدي أم من خلال ما هو روحي، عقلي؟ وإذا كانت مستحيلة فما هي عوائها أو ما الذي يجعلها كذلك؟
 

مستوى التحليل: موقف أبيقور

النبية المفاهيمية للنص
لبناء موقفه اعتمد صاحب النص بنية مفاهيمية متنوعة أساسها مفهوم اللذة الذي يحيل إلى تلك الحالة الوجدانية ذات الطبيعة الحسية، والتي يشعر المرء عند الاستجابة لها أو تحقيقها بالمتعة، وهي في نظر أبيقور ذات دلالة إيجابية باعتبارها خيرا، مقابل هذا المفهوم نجد الألم بما هو شر أو حزن يجب العمل على تجنبه بأي ثمن، إضافة إلى مفهوم الإحساسالذي يدل على الصورة المطابقة للواقع، عن طريقه يتم التمييز بين اللذة والألم في نظر صاحب النص، بهدف تحقيق السعادة كخير أسمى مواقف لطبيعة الإنسان والتي يتم بلوغها عن طريق اللذة ثم القناعة كاكتفاء بالحد الأدنى وبتلبية الحاجات الملحة.
يتضح انطلاقا من هذه التحديدات أن مفهوم اللذة يتضمن مفهوم الخير الذي يتواقف مع  السعادة القائمة على القناعة ضد الألم والشر الذي قد يصدر عن طلب كل اللذات دون انتقاء.
أطروحة النص وشرحها:
يرى أبيقور أن اللذة هي مبدأ وغاية الحياة السعيدة، ولبلوغها لابد من الفحص الدقيق للذات وانتقائها بهدف التمييز فيها بين اللذات التي تجر على المرء ألما خلفها، وينبغي العمل على تجنبها، مقابل طلب اللذة التي تجنب ألم الجسم واضطراب النفس. ومنه فالسعادة حسب أبيقور ممكنة بل وسهلة التحقق ذلك أن طريقها هو الاكتفاء الذاتي والقناعة، وأن لا يطلب المرء أكثر مما يملك أو يمكنه تحقيقه. يقول: “إن اللذة هي مبدأ وغاية الحياة السعيدة…والخير الأعظم هو أن نحسن الاكتفاء بذاتنا“.
قيمة الموقف وحدوده
تكمن قيمة موقف أبيقور في تجاوزه للمواقف المثالية التي كانت تؤسس السعادة على ما عقلي خالص، مما يجعلها شبيهة بالوهم أو السراب الذي كلما اقتربنا منه ابتعد أكثر، مقابل رهانه على القناعة واللذة كأسس لتحصيل السعادة، وهو ما يدل أن غاية أبيقور هي جعل السعادة في متناول الجميع وليست حكرا على الفلاسفة أو الحكماء أو المواطنون الأحرار كما كان يعتقد في عصره.
لكن من الملاحظ أن أبيقور ورغم تصريحه أن اللذة هي مبدأ وغاية الحياة السعيدة، لم يظل وفيا لهذا التصور، لأن التدقيق في موقفه قد يحيلنا إلى مستوى أخر ربما يكون بعيدا عن اللذة وقريبا من العقل الذي يدير عملية الانتقاء بين اللذات. وعليه نتساءل أليست الفكرة الضمنية في تصور أبيقور هي الإنصات لصوت العقل؟ ثم ألا يؤدي اتباع اللذة إلى جعل الإنسان مساويا للحيوان في الدرجة؟ ألا يشبه السقوط في طلب اللذات المريض المصاب “بالجرب” الذي كلما استجاب للذة الحك ازداد طلبا لها إلى درجة القضاء على الجسد والنفس؟ أليس علينا ونحن نبحث عن السعادة أن نسترشد بمن خبر طريقها؟.
 

مستوى المناقشة: موقف سينيكا

على خلاف تصور أبيقور المؤسس للسعادة على اللذة والقناعة، يذهب الفيلسوف الرواقي سينيكا إلى القول أن تحقيق السعادة باعتبارها طموحا مشتركا بين البشر، يتطلب تجاوز تحديد عامة الناس لها بكونها مرتبطة بتحصيل اللذات والمتع، والعمل في مقابل ذلك على سلك طريق العقلاء والحكماء الذين خبروا دروب السعادة، ذلك أن اتباع الرأي العام من شأنه أن يوقع الفرد في التيه والضياع، في حين أن الاقتداء بالعقلاء قد يوصل إلى السعادة الحقيقة والكاملة. يقول: “لا شيء أكثر تعاسة من الحياة وقف المحاكاة لا وفق العقل… والسبيل الأكثر استعمالا هو الأكثر تضليلا“.
 

تركيب المحور

كخلاصة لما تم تحليله ومناقشته، فإن البحث عن السعادة يطرح إشكالية فلسفية لا تقل أهمية عن إشكالية تحديد معناها، ذلك أن هناك من اعتبر أن السبيل إلى السعادة هو القناعة وتجنب الألم واالاضطراب عن طريق اللذة، مقابل من أكد أن طريق السعادة هو الابتعاد عن اللذة باعتباره طريق عامة الناس المضلل، واتباع طريق الحكماء.

المحور الثالث: السعادة والواجب

تقديم إشكالي

 ثمة اعتبارات أخلاقية تقضي بضرورة التزام الإنسان بالمعايير القيمية والقواعد المجتمعية، لأن طاعتها والخضوع لإملاءاتها قد يضمن السعادة للفرد، فمن دامت عادته دامت سعادته، لكن من شأن ذلك أن يستبعد مبادرة الذات واختيارها للفعل الأخلاقي الذي تعده سبيل سعاتها، مما قد يحيل الواجب إلى تعاسة وشقاء.
إذن هل يتم تحقيق السعادة عن طريق أداء الواجب أم من خلال التحرر منه؟ بمعنى آخر هل السعادة واجب نحو الذات أم تجاه الغير أيضا؟  وما طبيعة العلاقة بين بين السعادة والواجب؟ هل هي علاقة انسجام وتكامل أم علاقة تنافر وإعاقة؟
 

مستوى التحليل: موقف دينيس ديدرو

ليس على المرء في نظر ديدرو أن يستمع لصوت الضمير الأخلاقي الذي يجعل من الواجب غاية في ذاته كما اعتقد كانت، بل إن الواجب بهذا الشكل يمثل حاجرا وعائقا أمام سعادة الفرد. كما أنه قد يكون مدخلا لتعاسته(واجب مساعدة الآخر كيفما كانت الظروف!). ليؤكد في مقابل ذلك أن سعادة الإنسان/الفرد هي معيار كل ما يجب القيام به، ومنه فلا مجال للحديث عن علاقة السعادة الفردية والواجب الاجتماعي إلا انطلاقا من هذا المستوى، إذ لا واجب إلا ذاك الذي يتأسس على سعادة الفرد أولا وقبل كل شيء. يقول: “إن سعادتنا هي قاعدة كل واجباتنا“.
قيمة الموقف وحدوده
تكمن قيمة موقف “ديدرو” في واقعيته من خلال محاولة تجاوزه التصورات المثالية المجردة التي كانت تؤسس السعادة على التضحية وعلى أولوية المجتمع على الفرد، ليراهن في مقابل ذلك على تأسيس الواجب فقط على ما يجلب سعادة المرء، ذلك أن أساس التمييز بين الأفعال الخيرة وضدها هو مدى تطابقها وتوافقها مع سعادة الفرد.
لكن أليس في تصور ديدرو هذا انتصارا وتشريعا للأنانية المفرطة؟ أي سعادة تلك التي يمكن أن تؤسس على شقاء وتعاسة الآخرين؟ ألا ينبغي أن تكون السعادة مطلبا اجتماعيا بدل أن تكون فردية؟ ثم ألا يعتبر واجب إسعاد الغير أنجع مدخل لتحقيق سعادة الذات؟
 

مستوى المناقشة: موقف غاستون باشلار

على خلاف ماذهب إليه “دينيس ديدرو” يرى الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” أن السعادة الجماعية تشكل شرط السعادة الفردية، إذ يرى أنه لا سعادة في غياب التفكير في الآخر واستحضاره. إن الواجب الإنساني حسب باشلار يلزم الفرد بان يجعل من واجبه تجاه الغير أساس سعادته وليس العكس. وعليه فالعلاقة بين الواجب والسعادة في نظره علاقة انسجام وتكامل، بل إن السعادة الحقيقية هي تلك التي تتاسس على الواجبات الأخلاقية نحو الغير وليس ضدا على سعادة هذا الأخير. يقول: “لكي تكون سعيدا عليك أن تفكر في سعادة الآخر
 

تركيب المحور: من خلال موقف برتراند راسل

كتجاوز لهذين الموقفين يرى “برتراند راسل”  من خلال مؤلفه “الفرد والسلطة” أن على الإنسان واجب إسعاد ذاته لكن مع ضرورة إسعاد غيره في نفس الوقت، والمسألة المهمة هنا هي أن لا يضحي الفرد بواجبه الاجتماعي طلبا للمتعة الشخصية أو العكس. بل يجب أن يوازن بين الاثنين. وأن يقلع عن اقتناص اللذات التافهة. فالواجب الاجتماعي مهم بقدر أهمية المتعة الفردية. إن واجبات الفرد نحو الآخرين لا تقل أهمية عن واجباته تجاه نفسه. هذان الواجبان أمران متلازمان يصعب فصلهما.
 



مفهــــــــوم: الـــحريــــــــة

تقديم إشكالي

يطرح مفهوم الحرية إشكالا فلسفيا عميقا نظرا لاتصاله بمختلف أفعال الإنسان، سواء كانت عملية أو نظرية، أو بالنظر أيضا لعلاقتها بمجالات متعددة كالمجال الطبيعي والسياسي والاقتصادي والسيكولوجي والأخلاقي…إلخ، فما المقصود بالحرية؟
ترتبط الحرية بغياب القسر، خارجيا كان أم داخليا، والإنسان الحر هو من لم يكن عبدا أو أسيرا ومنه فالحرية هي ”القدرة على اختيار الفعل عن روية مع استطاعة عدم اختياره، أو استطاعة اختيار ضده“، فالحرية أيضا تتحدد من خلال ما يقابلها كالضرورة والحتمية والإكراه.
ويمكن التمييز في الحرية بين نوعين:
حرية التنفيذ: أي القدرة على الفعل أو الامنتاع عنه دون الخضوع لأي إكراه خارجي.
حرية التصميم: وتشير إلى ملكة الاختيار والقدرة على التخطيط والفعل دون الخضوع لتأثير أي قوى داخلية أو باطنية، سواء كانت ذات طابع عقلي أو وجداني، إنها حرية سيكولوجية.
باختصار الحرية هي حالة الكائن الذي لا يعاني إكراها، أي ذلك الذي يتصرف وفق مشيئته وطبيعته إنها تعبير عن استقلالية الذات فكرا وتصرفا وعدم خضوعها لأي أكراه كيفما كان داخليا أم خارجيا إذن:
  • هل الإنسان حر أم مقيد؟ مخير أم مسير؟ وهل الحرية واقع أم مجرد وهم؟
  • هل الحرية هي أن نفعل ما نريد أم أن نسلك وفق ما تقتضيه الضرورة؟
  • ما علاقة الحرية بالقانون؟ وهل وجد هذا الأخير لضمان الحرية أم للإجهاز عليها؟

 

المحور الأول: الحرية والحتمية

تقديم إشكالي

الحتمية بالمعنى الفلسفي مذهب يرى أن جميع حوادث العالم، وبخاصة أفعال الإنسان، مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا محكما، ذلك أن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة مقيدة بشروط توجب حدوثها اضطرارا، وما دام الإنسان جزء من الطبيعة الكلية.
فما موقع فعله بين الحرية والحتمية؟ وهل هو حر وفق ما يريده ويختاره أم وفق ما أريد له وتم اختياره بموجب ضرورات وحتميات خارجية عنه؟ بمعنى آخر هل الإنسان كائن مخير أم مسير أم أنها يجمع بينهما؟ وقبل ذلك هل الحرية واقع فعلي أم أنها مجرد وهم؟
 

مستوى التحليل: موقف أبو الوليد بن رشد

عرف الفكر الإسلامي منذ بداياته الأولى سجالا وجدالا واسعا بين أنصار القٌدرية والإختيار، وأنصار الجبرية. فالجبريون قد اعتقدوا أن الإنسان مجبر في أفعاله كلها مادام أن الله قد كتب عليه ذلك وقدًره عليه، إلا أن سقوط الحرية عن الإنسان يسقط المسؤولية كذلك ونحن نعلم أن الله قد وعدنا بالحساب والعقاب وهذا تناقض. أما المعتزلة فقد أكدوا في مقابل ذلك أن الإنسان حر حرية مطلقة وبذلك فهو مخير في أفعاله ما دام الله قد وهبه ملكة العقل والاختيار مما سيجعله بشكل مباشر مسؤولا عن أفعاله. إلا أن القول بحرية الإنسان المطلقة في الفعل من شأنها أن تجعله قادرا على خلق أفعال قد تتعارض مع الإرادة الإلهية وهذا خلف وتناقض أيضا. وكمخرج من هذا المأزق يرى ”ابن رشد“ أن الإنسان ليس مجبرا بإطلاق ولا مخيرا بإطلاق، وإنما هو واقع بين حدي الجبر والتخيير، ويرجع ذلك إلى أن الفعل الإنساني نتاج تظافر وتوافق الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية معا. فالفعل الإنساني يتألف من حرية الاختيار أو عالم  الإرادة الداخلية، والقدرة الإلهية أو عالم الأسباب الخارجية. أي أنه مشروط ومحدود بقوانين الطبيعة التي خلقها الله في العالم وبقدرات البدن.
قيمة الموقف وحدوده:
تكمن قيمة موقف ابن رشد في تأكيده على قيمة الإنسان عبر عدم جعل إرادته سلبية أو منفية، ذلك أن امتلاكه للعقل قد أكسبه القدرة على القيام بأفعال أو رفضها، عبر تقديره للنتائج الإيجابية أو السلبية المترتبة عنها،  متجاوزا بذلك مختلف التناقضات التي سقطت فيها بعض الفرق الكلامية حول موقع الإنسان بين الحرية والجبرية. ومنه يتضح أن رهان ابن رشد هو الحفاظ على التلاؤم بين العقل والإيمان، الحكمة والشريعة، وبالتالي التوازن بين ما يختاره الإنسان وما هو مفروض عليه.
لكن هل هناك حد وسط بين الحرية والخضوع؟ وكيف يمكن الجمع بين مفهومين متعارضين متقابلين؟ أليس من الأجدر القول أنه إذا تحددت ماهية الإنسان سواء كان ذلك من طرف الله أو عبر بعد آخر مفسر للوجود، فإنه يظل دوما مجبرا ومحددا من طرف هذه الماهية، أما إذا كان الإنسان يوجد أولا ثم يحدد ما سيكونه ف المستقبل (ماهيته)، فإن النتيجة المترتبة عن ذلك أنه حر ومسؤول؟ فهل الإنسان حر أم خاضع؟ وهل الحرية وقع أم وهم؟
 

مستوى المناقشة: موقف جون بول سارتر

على خلاف كل من تصور ابن رشدالذي حاول التوفيق بين الحرية والحتمية، وسبينوزا  الذي اعتبر أن الحرية مجرد وهم ناشئ عن الجهل بالعلل والأسباب التي تحكم الوجود، يرى الفيلسوف الوجودي الفرنسي جون بول سارترأن الحرية هي أبرز محدد للوجود الإنساني، فالإنسان في نظره ليس عبارة عن معطى محدد سلفا، وإنما هو ذلك الكائن الذي يصنع نفسه بنفسه، لأن امتلاكه لإرادة كاملة يمكنه من تجاوز كل الإكراهات التي تواجهه. إن الماهية الوحيدة المحددة للإنسان بشكل قبلي هي كونه حرا، فالإنسان بهذا المعنى لا يختار الحرية، بل محكوم عليه بأن يكون حرا. يقول: ”ليس الإنسان سوى ما يصنعه بنفسه.
ملحوظة: يمكن استثمار المواقف التي تمت الإشارة لها ضمن محور ”الشخص بين الحرية والضرورة

المحور الثالث: الحرية والإرادة

تقديم إشكالي

إذا كانت الإرادة تعني القدرة على التحكم في الذات والسيطرة على النفس والاستقلال عن كل قوة خارجية، فإن الإنسان بذلك كائن حر في اختياراته، وحين نتحدث عن الإرادة فإننا نعني بها المبدأ الحقيقي الموجه للفعل الإنساني، إنها تصميم على آداء فعل معين بشكل واعي، فالفعل الإرادي وليد جهد ذهني، إلا أن الإرادة لا يمكن أن تظل محصورة في دائرة النية أو التصور والفكر، فهي تفترض غاية تسعى إلى تحقيقها وفكرة تعمل على تنفيدها، إلا أن ذلك قد يكون أساسا للحد منها أو لتحديدها، وعليه نتساءل:
بأي معنى يمكن الحديث عن حرية الإرادة؟ وما هي شروط تحققها؟ وما علاقة الحرية بالإرادة؟ وهل الحرية هي أن نفعل ما نريد أم أنها أن نسلك وفق ما تقتضيه الضرورة؟
 

مستوى التحليل: موقف رونيه ديكارت

يرى الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت أن الإرادة محدد أساسي لحرية الإنسان، باعتبارها قوة باطنية سابقة على الفعل وبعيدة عن المؤثرات والظروف الخارجية، ورغم أن إرادة الإنسان لا تصل إلى إطلاقية الإرادة الإلهية إلا أنها تبقى مع ذلك واسعة جدا، لأنها تسمح للإنسان بأن يفعل الشيء أو يمتنع عنه بمحض إرادته. إن الحرية حسب ديكارت كاملة بالنسبة للإنسان لأنها تنتج عن الإرادة كقدرة على الاختيار بين الأضداد، وهذه هي الحرية الإيجابية في نظره، مقابل الحرية السلبية أي تلك التي يستوي فيها الضدان والتي يتم التعبير عنها من خلال الاختيار العشوائي، عدم الإكثرات/اللامبالاة أو غياب القدرة على الاختيار. يقول: “إن الإرادة إنما تقوم على استطاعتنا أن نفعل الشيء أو ألا نفعله، أن نتبثه أو ننفيه، وأن نقدم عليه أن نحجم عنه“.
قيمة الموقف وحدوده
تكمن قيمة موقف رونيه ديكارت في إصراره على ضرورة منح الإنسان حريته المطلقة، عبر تأسيسها على الإرادة الواعية والعاقلة كخاصية يستطيع من خلالها أن يخطط لسلامة اختياراته وفعاليتها عبر تقدير تبعاتها ونتائجها وممكنات تحققها، هذه الخاصية هي التي تمكن الإنسان من التميٌز عن ماعداه من الموجودات والكائنات الأخرى، متجاوزا بذلك المواقف التي كانت تنظر للحرية الإنسانية كوهم أو تلك التي كانت تهوٍل من حجم الشروط المحددة للوجود، مراهنا على أهمية الحرية الإنسانية لتحقيق المسؤولية الكاملة عن الأفعال والاختيارات.
لكن أليس هناك تعارض بين أن يكون الإنسان حرا بإطلاق وبين نسبية إرادته مقارنة بالإرادة الإلهية؟ ألا يعتبر منح الحرية الكاملة والمطلقة للإنسان خرقا وتجاوزا لشروط تحقق الإرادة؟ وبالمقابل ألا يمكن أن تكون الإرادة الإنسانية محكومة بشروط وعوامل داخلية وخارجية في الآن نفسه؟ أليست حريتنا وإرادتنا في الأصل مشروطة بضغوظ الواقع وإكراهاته؟
 

مستوى المناقشة: موقف فريدريك إنجلز

على خلاف ما ذهب إليه رونيه ديكارت الذي دافع عن الإرادة الإنسانية الحرة، معتبرا أن حرية الإنسان تقوم على إرادته المطلقة في الفعل أو الامتناع عنه، يرى فريدريك إنجلز أن قول ديكارت هذا مجرد أمل في تحقيق استقلال حالم تجاه قوانين الطبيعة، ليؤسس موقفه في مقابل ذلك على بعد واقعي وموضوعي، من خلال اعتباره أنه لا حرية ولا إرادة إلا وفقا لمعرفة الشروط والقوانين الموضوعية المتحكمة في الفعل الطبيعي والإنساني. ومنه فقد أكد أن الحرية المطلقة كما كانت تتصورها بعض المواقف الفلسفية مجرد وهم وحلم ناشئ عن الابتعاد عن الواقع والاستغراق في التأمل والتجريد. يقول: “إن حرية الإرادة لا تعني شيئا غير ملكة اتخاد القرار بناء على معرفة تامة“.

تركيب للمحور

كخلاصة لما سبق تحليله ومناقشته يتضح أن أشكالية العلاقة بين الحرية والإرادة قد أفرزت موقفين متضاربين، فهناك من اعتبر أن الإنسان حر في اختياراته وهذه الحرية تقوم على الإرادة باعتبارها ملكة الفعل أو عدمه انطلاقا من معرفة مسبقة بالفعل ونتائجه، مقابل من أكد أن القول بوجود الحرية مجرد حلم ذلك إن الإرادة محدودة دوما ومشروطة بالواقع الذي يقيدها، وأقصى ما يمكن أن تصله  هذه الأخيرة هو الوعي بالضرورة.

المحور الثالث: الحرية والقانون

تقديم إشكالي

ﺗﻌﺪ  ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ  ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ  ﻗﻴﻤﺔ إنسانية ﺳﺎﻣﻴﺔ، ﻭﻫﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﻤﻠﺤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ‌ﺯﻣﺖ ﺍلإ‌ﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﻣر ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ، ﻭﻳﺮﺗﺒﻂ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺑﻘﺪﺭﺓ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻭﺍﻻ‌ﺧﺘﻴﺎﺭ واتخاذ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﺩﻭﻥ ﺍﻛﺮﺍﻫﺎﺕ ﻣﺴﺒﻘﺔ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍلإنساني ﻳﻌﺮﻑ ﺗﺮﺍﻛﻢ إشراطات داخلية نفسية، أو ﺣﺘﻤﻴﺎﺕ وإكراهات طبيعية وﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ خارجية، ﺗﺤﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺗﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﺸﺮﻭﻃﺔ. ويمكن أن يكون القانون أحد هذه المحددات، فهو من جهة قد يكون عائقا أمام حرية الإنسان من خلال العقاب الذي يلحقه بمن خالفه، كما أنه قد يكون أساس حماية الحرية وصيانتها كأفق محدد لإمكان العيش المشترك، وهذا ما يبرر كون ﺍﻟﻌﻼ‌ﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ  قد اعتبرت ﻣﻦ ﺍﺑﺮﺯ الإشكاليات ﺍﻟﺘﻲ أثارت ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺎﺵ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺎﺣﺔ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﺍﻟﺤﻘﻮﻗﻴﺔ.
إذن كيف تتحدد العلاقة بين الحرية والقانون؟ هل هي علاقة تعارض أم تكامل؟ بمعنى آخر هل يعتبر خضوع الإنسان للقانون حدا من حريته أم أنه ضامن لها؟
 

مستوى التحليل: موقف شارل دي مونتسكيو

يعتبر الفيلسوف الفرنسي “مونتسكيو” أن القانون هو الضامن للحرية في دولة المؤسسات، ذلك أن الغرض من سهر القانون على تنظيم الحريات ليس سوى رفض لكل أشكال الشطط والفوضى التي يمكن أن تطبع ممارسة الأفراد للحرية، مما يعني أن القانون لا يعتبر عائقا أمام الحرية وإنما هو على العكس من ذلك ضامن لها ولاستمراريتها. ففي ظل النظام الديمقراطي يبدو أن الشعب يفعل ما يريد لأن القانون في مجمله صادر عن إرادات الأفراد بما هو اتفاق ومواضعة حول كل ما يمكن تشريعه وسنه. ومنه فالقواعد القانونية وحدها هي التي يمكن أن تضمن حرية الإنسان، خصوصا إذا تم الحد من الشطط في استعمال السلطة بواسطة سلطة أخرى(مبدأ فصل السلط)،يقول: “إن الحرية هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين“.
قيمة الموقف وحدوه
يكتسي موقف مونتسكيو قيمة فلسفية وسياسية مهمة من خلال محاولة تأسيسه للحرية على القانون، على اعتبار أن الجميع سواسية أمامه، ذلك أن العقد المبرم بين الأفراد ينص أن القانون يوجد فوق الجميع بدون اسثناء، إنه فوق الرغبات والمصالح الخاصة، ولا يمكن أن يكون شرعيا إلا إذا عبر عن الجميع وعن المصلحة العامة، ومنه فرهان مونتسكيو هو الدفاع عن العلاقة التكاملية بين الحرية والقانون باعتبار أن هذا الأخير لا يشكل عائقا أمامها بل إنه ضامن ومدافع عنها.
لكن هل تكون القوانين دوما عادلة ومنصفة وقائمة على المساواة؟ وما قيمة تأسيس الحرية على القانون رغم أن هذا الأخير متغير ومتذبذب وقابل للتعديل باستمرار؟ وبالمقابل ألا يعتبر العصيان والتمرد جوهر الحرية عندما تنتهك الحرمات ويضيق الأفق وتُغُيب الكرامة الإنسانية؟ وما قيمة القوانين إذا كانت ستوظف للحد من حرية الإنسان  وتكبيله وتقييده؟
 

مستوى المناقشة: فريدريك إنجلز

من الواضح أن ربط الحرية بالقانون يضعنا في كثير من الأحيان أمام مشكل حقيقي ذلك أن القانون الذي وضع في الأصل لحماية حريات الإنسان وضمانها يتم أحيانا استغلاله بالمقابل للاجهاز عليها، من خلال منع الفرد من التمتع بالحقوق والحريات، فالقانون لا يكون دوما شفافا ونزيها ما دام معرضا دوما لأن يستغل من طرف البعض ضدا على مصالح البعض الآخر. في هذا السياق وعلى خلاف التصورات التي تجعل من القانون شرط الحرية، يرى “فريديرك إنجلز” أن القانون الذي ابتكر للقضاء على الصراع والتناقض بين الأفراد، قد تحول بفعل التغيرات التي شهدها المجتمع إلى مجرد وسيلة إيديولوجية في يد الدولة التي تعمل من خلالها الطبقات المسيطرة على بسط هيمنتها على الطبقات الأخرى، بهدف إخضاعها، ليؤكد في المقابل أن الإنسان لن يكون حرا في المجال السياسي إلا عندما يصبح سيد نفسه في المجتمع الشيوعي، أي بعد زوال الطبقات والملكية الخاصة، والقضاء على الدولة وقوانينها الجائرة والمنحازة. إن “الحرية الحقيقية” في نظره لا تتحقق ولا تنمو إلا بالتغيير الثوري للمجتمع ككل.(انظر موقف إنجلز من وظيفة الدولة والأساس الذي تنبني عليه).
 ملحوظة: يمكن توظيف موقف شيشرون كما سبق التطرق له ضمن العدالة كأساس للحق، شريطة تكييفه مع الإشكالية الحالية.
 
أنجز هذا العمل عبر استثمار جملة من المصادر إلا أن طبيعة العمل لا تسعف لتقديم الإحالات إليها .

إغلاق