الأفعال الأخلاقية بين الواجب والإرادة عند كانط – محمد فراح

الأفعال الأخلاقية بين الواجب والإرادة عند كانط – محمد فراح

إستخلص كانط في القسم الأول من كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» الذي عنونه ب «الإنتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية» أن الواجب مبدأ لجميع الأحكام الأخلاقية عند قوله «أعني أن تؤدي هذه الأفعال لا عن ميل بل عن شعور بالواجب» [1] ، لعل هذا هو ما سيؤكده بالفعل ، في تقديمه للقسم الثاني من الكتاب ، وذلك بقوله «فإن ذلك لا يمنع من الشك فيما إذا كانت قد حدثت حقاً عن شعور بالواجب وفيما إذا كانت تحتوي تبعا لذلك على قيمة أخلاقية» [2] ، إن فكرة الواجب هذه سيجعل منها كانط فكرة كونية من خلال «ألا نجد شيئاً على الإطلاق كان يمكن أن يبلغ من القوة مبلغا يدفعنا معه إلى إتيان هذا الفعل الخير أو ذاك […] دون أن يصدر عن المبدأ الأخلاقي للواجب» [3] ، هذا ما جعله يسلم «أن معظم أفعالنا تتفق مع الواجب» [4] ، هذا ما يضفي الشرعية على الواجب ، كما أن هذا الواجب لا تقوم له قائمة إلا من خلال «إحترام للقانون ، والقانون الذي يقتضي هذا الإحترام ويوحي به أيضاً هو ، كما هو بين ، ليس سوى القانون الأخلاقي » [5] ، إن الإنسان بوصفه ذلك الكائن العاقل الذي يمتلك تلك الإرادة الذاتية الحرة والمبدعة ، هذه الأخيرة هي التي توجه مجمل أفعاله وسلوكاته ، وذلك بغرض إستبطان أفعاله من القوانين المنظمة التي تحتكم إلى العقل ، نقصد هنا العقل العملي الأخلاقي (La raisson pratique)، فإذا تمكن هذا العقل من تحديد إرادته تحديدا تاما ونهائيا ، يكون الفعل الذي يقوم به موافقا تمام الموافقة للعقل ، وذلك من خلال «العقل المحض الذي هو وحده العقل العملي من تلقاء نفسه ، ويعطي للإنسان قانونا عاما ، نسميه القانون الأخلاقي» [6] يستنتج كانط مما سبق أن القانون الأخلاقي هو المبدأ الوحيد للإرادة المحضة ، هذه الإرادة التي قلنا سابقاً أنها سبب توجيه العقل ، وبما أنها عبارة عن قانون مشرع لكل كائن عاقل في ذاته (=يقصد الإنسان) ، الذي يحدد إرادته ، فإنه يعمل دائماً على جردها من كل موضوع ، أو إكراه ، لأنه يجب علينا دائماً «الإحترام المتين لقانون الواجب» [7] ، ومن هذا يتضح أنه ما من تجربة على الإطلاق يمكنها أن تحد من إحترامنا لهذا الواجب ، كما لا وجود لقوانين يمكن أن تحدد إرادتنا ، قوانين يمكنها تحديد إرادة الكائن العاقل على الإطلاق ، نقف هنا عن فكرة أساسية لدى كانط وهي فكرة الإله (إله كانط) ، وذلك بعودتنا إلى كتاب «الدين في حدود العقل المجرد» حيث يرى أن الإنسان دائماً ما يبحث بطبعه عن المثل الأصيل ، الذي يقصد به الأنموذج الأعلى ، هذا الأخير هو ما يشكل المثال الأسمى الذي له كمال أخلاقي أي أنموذج للخير ، هذا الأنموذج الأعلى لن يكون سوى الإله أو الله بوصفه خيراً أسمى أو (الخير الأسمى) ، هذا القانون الأخلاقي متضمن في مفهوم الخير الأسمى دائماً ، بوصفه ذلك الشرط الأساسي والضروري ، أكررها الضروري ، الذي يشترك في التأسيس للإرادة المحضة للكائن العاقل (=الإنسان) ، لكن رغم كل ذلك لا يمكن إعتبار هذا الخير الأسمى هو المبدأ المعين للإرادة المحضة ، لا نفهم من كل هذا أنه هو علة للأولى ، من خلال أنه «يجب أن ينظر إلى القانون الأخلاقي وحده على أنه المبدأ الذي يجعل الخير الأسمى وتحقيقه والإعلاء من شأنه موضوعا لها» [8] ، تجذر الإشارة هنا إلى أن ميتافيزيقا الأخلاق التي أراد أن يؤسسها هنا ، ما هي سوى فلسفة عملية محضة التي حاول تمييزها عن الفلسفة المطبقة على الطبيعة الإنسانية ، هذا التمييز معناه عدم الخلط بين هذين المصطلحين ، بل لا يمكن تأسيس المبادئ الأخلاقية على الخصائص المتعلقة بالطبيعة الإنسانية ، حيث أن العقل هو ما يحدد ويفصل إن صح التعبير بين الواجب والقانون الأخلاقي ، بل إن مصدر كل  التصورات الأخلاقية العقل وحده ، وذلك على «أنه لا يمكن إستخلاصها [أي التصورات الأخلاقية] من أي معرفة تجريبية هي لهذا السبب معرفة عارضة ؛ […] بل إن من أهم الأمور من الناحية العملية أن تستقي تصوراتها وقوانينها من منبع العقل الخالص .» [9] ، هنا يمكن الخلوص إلى أن الأفعال الأخلاقية منها ما يتفق مع الواجب كما قلنا ، ومنها ما لا يتفق ، لذلك يشترط كانط في نظريته حول الفعل الأخلاقي شرطين أساسين: الأول هو أن يكون الفعل الصادر عن الإرادة الخيرة واجبا أخلاقيا صحيحا ، أما الثاني فهو أن يكون الحافز /الدافع وراء ذلك الفعل ، وأن يكون واحداً ووحيدا ، هو دافع الواجب الأخلاقي أي بطلب من الواجب ذاته وليس لغرض غيره ،  ذلك أن هذه الأفعال الناتجة عن الواجب قد تكون لها تلك النية المسبقة للقيام بذلك الواجب ، حسب كانط هي أفعال مشروعة وليست أفعالا أخلاقية بالمعنى الصحيح للكلمة ، لذلك لا يجب علينا دائماً إقامة ذلك الفصل بين الأفعال الأخلاقية وما صادراتها ، أي ما يصدر عنها ، هذه الإرادة المستقلة التي توجد في ذاتها «L’autonomie de la volonté est cette propriété qu’a la volonté d’être à elle

Même sa loi .» [10] ، هي كما سبق وأن قلنا المحددة للفعل الأخلاقي ، ويتجلى ذلك من خلال «Le

Principe de l’autonomie est donc : de toujours choisir de telle sorte que les

Maximes de notre choix soient comprises en même temps comme lois

Universelles dans ce même acte de vouloir. »[11] إذن هذا القانون الأخلاقي الكوني متجسد دائماً في الإرادة ، وذلك لأن فعل الإرادة يتفق من تلقاء ذاته إتفاقا إلزاميا دائماً مع القانون الأخلاقي ، هذه الفكرة هي التي يدافع عنها كانط وبشدة ، خاصة وأن هذه الأوامر الأخلاقية تصدر أوامرها بشكل سببي (نجد السبب والنتيجة التي ترافقه) كما أنها تتخذ طابع الكونية والشمولية التي تميزها دائماً ، إن هذا الفعل يتجسد في ما الذي يمكنني القيام به ؟ إن كانط يجيب عن هذا السؤال يجب أن يكون الفعل الذي أقوم به خيراً يوافق العقل العملي ، لذلك سيؤكد كانط أنه «ليس ثمة شيء يمكن أن تعده خيراً في هذا العالم أو خارج هذا العالم سوى شيء واحد غير مشروط هو الإرادة الخيرة» [12]

لذلك سيعمل كانط على إعتبار أن هذا الواجب المطلق قد يغدو في نهاية الأمر واحد ، وسيعترف بذلك «وإذن فليس ثمة غير أمر مطلق واحد ، يمكن التعبير عنه على النحو التالي : لا تفعل الفعل إلا بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في نفس الوقت من أن تريد لها أن تصبح قانونا عاما » [13] ، هذه هي الفكرة الجوهرية جداً في فلسفة كانط الأخلاقية العملية ، رغم أن الفكرة تبدوا مجردة جداً أو تعبيرا بانوراميا ، لكنها تعبر بشكل دقيق جداً وعملي وبراغماتي أيضاً عن الأخلاق الكانطية ويمكن ملامستها في الواقع ، فقط يجب أجرأتها وتنزيلها والإنطلاق من الواقع لتحديدها كما هي وأجرأتها ، لأنها قيمة خلقية من خلال فكرة قانون أخلاقي شمولي ومركب.

البيبليوغرافيا:

[1] أمانويل كانت ، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ، ترجمة وتقديم : د. عبد الغفار مكاوي ، راجع الترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي ، منشورات الجمل ، بيروت -بغداد 2002 ، ص 47 .

[2] نفس المرجع ، ص 65 .

[3] نفس المرجع ، ص 66 .

[4] نفس المرجع ، ص 67 .

[5] إيمانويل كانط ، نقد العقل العملي ، ترجمة غانم هنا ، المنظمة العربية للترجمة ، لبنان -بيروت ، ص 155 .

[6] نفس المرجع ، ص 84 ، (لازمة) .

[7] أمانويل كانت ، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ، ص 68 .

[8] إيمانويل كانط ، نقد العقل العملي ، ترجمة غانم هنا ، ص 196 .

[9] أمانويل كانت ، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ، ترجمة وتقديم د عبد الغفار مكاوي ، ص 75.

[10] -kant ,Fondements de la métaphysique des mœurs ,trad , victor Delbos , p 52 .

[11] Ibid , p 52.

[12] -kant ,Fondements de la métaphysique des mœurs ,trad , victor Delbos ,p,10.

[13] أمانويل كانت ، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ، ترجمة وتقديم: د عبد الغفار مكاوي ، ص 93 .

محمد فراح ، طالب في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط ، سلك الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي -الفلسفة 

إغلاق