تقديم مفهوم الرغبة: مدخل إشكالي

المجزوءة الأولى: مجزوءة ما الإنسان؟

المفهوم: مفهوم الرغبة

مدخل إشكالي

ذ. مراد الكديوى

 

تقديم مفهوم الرغبة

تاريخ الرغبة هو تاريخ اللعنة. بهذه العبارة يحاول “جيل دولوز” كشف الزيف والتهميش الذي طال مفهوم الرغبة تاريخيا باعتباره تعبير عن النقص واللذة والشهوة. دون أن يكون بعد من أبعاد الوجود الإنساني التي تحدد كينونته وماهيته خلافا للوعي مثلا. ولعل مثل هذا التحقير يجد أصوله في الدلالة المفهومية للرغبة désir. فهي من حيث الإشتقاق اللاتني desiderium تحيل على حالة الأسف الناجمة عن افتقاد موضوع ما. في حين نجد أندري لالاند” في معجمه الفلسفي يعرفها بكونها “نزوع تلقائي وواع إلى غاية معروفة أو متخيلة”. ومن تم فإن الدلالة المعجمية للرغبة تجعل منها دائمة التعلق بموضوع خارج عنها، تكون الذات فيه في حالة نقص إلى أن يتم امتلاكه (الموضوع). وبعيدا عن هذا التعلق السلبي للرغبة بموضوعها فإن تحقير الرغبة يجد أسسه النظرية في كل من التراث الفلسفي والديني والسيكولوجي. كيف ذلك؟
          أعطت الفلسفة اليونانية صورة قدحية للرغبة، خصوصا مع” أفلاطون” الذي جعل من الرغبة تعبير عن النفس الشهوانية التي تنحصر فضيلتها في اشباع الشهوة بامتلاك الموضوع. فكانت بذلك عدالة النفس والمجتمع تقتضي إخضاع هذه الرغبة ومعها النفس الشهوانية إلى النفس العاقلة التي تتمثل فضيلتها في الحكمة والتأمل التي تضمن التوازن على مستوى النفس والمجتمع. هذا الإقصاء النظري للرغبة على المستوى الفلسفي يجد تعبيره الصريح في “التراث الديني مع المسيحية” التي ربطت الرغبة على المستوى الميتافزيقي بالخطيئة الأولى. فكانت الرغبة بذلك لعنة تعبر عن نقص في الطبيعة البشرية، وجب كبح جماحها وشهوتها والتنكر لها من أجل التكفير عن الخطيئة. وتكتمل صور اللعنة هاته بالمعطى السيكولوجي بزعامة “سيغموند فرويد” الذي اختزل الرغبة في البعد الجنسي داخل ثالوت الأسرة (الأب، الأم، الإبن.) كممنوع يجد تعبيره في كل من عقدة “أوديب” و”الكترا” التي تهدد التماسك النفسي والإجتماعي للأفراد. وبغية تفادي هذا الإحراج جعل “فرويد” من الرغبة وسيلة ترمي تحقيق “الليبيدو”.
          من الواضح إذن أن الرغبة في مجمل دلالاتها هاته تقترن بمفاهيم من قبيل: اللذة، الشهوة، الخطيئة، الوسيلة، النقص… وبذلك جعلت الفلسفة من الرغبة أمرا هامشيا لا يعكس الماهية الوجودية للإنسان كماهية واعية. بل تجعله قريبا من الوجود الحيواني الذي يفتقد لخاصية الوعي. لكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نحن كائنات راغبة باستمرار بالرغم من أن الرغبة تناقض الطبيعة الواعية للإنسان؟
          إن الإعتراض عن الرغبة تاريخيا تم بزعم كونها حيوانية وتناقض الوجود الواعي للإنسان. فبالقدر الذي تكشف فيه مثل هذه الرؤية عن تصور أحاذي البعد للإنسان الذي يتم اختزاله في الوعي، بالقدر الذي يكشف عن جملة من المغالطات التي يكفي رفعها لإعادة الإعتبار للرغبة. وتتمثل المغالطة الأولى في جعل الرغبة معطى مشترك يقال على الإنسان والحيوان وهذا تناقض. فالرغبة خاصية إنسانية لأن الإشباع فيها يكون بطريقة ثقافية تتسم بالتعدد والإختلاف بحسب المنظومة القيمية. في حين أن الحيوان له حاجة بيولوجية-غريزية يتم إشباعها بكيفية ميكانيكية كلما تم استثارتها. فالحيوان يبقى إذن في حدود الحاجة دون أن تكون له القدرة على تحويل الحاجيات إلى رغبات. أما المغالطة الثانية فتتمثل في تصور الوجود الإنساني بكونه وجود واع، في حين أن الرغبة شهوة تناقض الوعي. لذا تم تقدير الوعي في مقابل الحط من قيمة الرغبة، ومنشأ هذا التناقض كامن في الثنائية الديكارتية التي فصل فيها بين الجسم والنفس. التي عمل اسبينوزا على تجاوزها وإعادة الإعتبار للرغبة. كيف ذلك؟
          أعاد “اسبينوزا”الاعتبار للرغبة كمحدد ماهوي للوجود الإنساني، من خلال هدم الهوة بين الفكر والجسم وجعلهما تعبيرا عن الطبيعة البشرية الواحدة. فالذات واحدة إلا أن اختلاف تصورها مرتبط بالصفة (الفكر أو الامتداد) التي ننظر من خلالها للإنسان، وعليه لم تعد الرغبة مناقضة للماهية الإنسانية المتأصلة في الوعي. بل أصبحت عبارة عن شهوة مصحوبة بوعي ذاتها، فأصبح الإنسان حيوان راغب تكون الرغبة ماهيته. وفي نفس السياق الذي يعيد الإعتبار للرغبة ذهب الفيلسوف الفرنسي “جيل دولوز” الذي عمل على تصحيح مفهوم الرغبة بجعله معطى كامل وايجابي لا يعبر عن النقص. كون الرغبة شيئ في ذاته وليس معطى غائي يرتبط باللذة أو الإشباع. ومن تم تكون الرغبة جذمور.
          إن مثل هذا العرض يؤسس لإحراج فلسفي في الإمساك بمعنى الرغبة بين البعد الإيجابي والسلبي. الأمر الذي يفصح عن الطابع الفلسفي للرغبة، والذي يمكن أن نتلمسه من خلال مجموعة من الإشكالات التي تجد تعبيرها في المنطلقات التالية:
ªالمنطلق الأول: ” لا رغبة بدون موضوع”.
ü                    وفيه نتساءل عن موضوع الرغبة وإمكان تمييزه عن موضوع الحاجة. ومن تم تلمس طبيعة العلاقة بينهما. ويمكن التعبير عن هذه المعطيات بالتساؤلات التالية: ما الرغبة؟ كيف يمكننا التمييز بين موضوع الرغبة والحاجة؟ وما طبيعة العلاقة بينهما بموجب هذا التمييز؟ ومجموع هذه الإشكالات تجد تعبيرها في المحور الأول: الرغبة والحاجة.
ªالمنطلق الثاني: ” الرغبة اثر يتطلب أصلا.”
ü                    والإشكال الأساسي لهذا المنطلق هو إشكال الأصل. أي ماهو أصل الرغبة هل هو الذات (في الشق المتعلق بالإرادة أم في الشق المتعلق بالشهوة) أم أن أصلها ينبع من المجتمع الذي يصنع الرغبات التي يتوجب على الفرد إشباعها؟ وهو موضوع المحور الثاني: الرغبة والإرادة.
ªالمنطلق الثالث: ” الرغبة مفهوم غائي.”
ü  والسؤال فيه عن الغاية المترتبة عن الرغبة. ويمكن التعبير إشكاليا بالسؤال: ما الغاية من وجود الرغبة؟ هل تقود الرغبة إلى السعادة أم إلى الشقاء؟ وهو موضوع المحور الثالت.

 

إغلاق