محمد غنام: فكرة الكرامة لدى راينر فورست

أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي، مسلك الفلسفة والعلوم الإنسانية. حاصل على شهادة الماستر ـ تخصص الفلسفة العملية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ـ فـــــــاس.

الحق في الكرامة يعطينا شعورا بامتلاك الحق في التبرير لأفكارنا


إجابة الفيلسوف الألماني “رينار فورست”
      يرى الفيلسوف الألماني “رينار فورست” أن مفهوم الكرامة أخد مكانة مركزية داخل الصراع التاريخي المناهض لكل أشكال الهيمنة والتمييز، و ذلك لهدف القطع مع ثقافة التهميش من جهة، والتأسيس لدوافع سياسية وخطابية جديدة تشكل جوهر المطالب المشروعة لحقوق الإنسان، المتمركزة خصوصا حول مفهوم الكرامة من جهة ثانية.
                وتظهر أهمية هذه المطالب في مناقضتها لكل الصراعات الاجتماعية التي تطفو فوق سطح المجتمع الإنساني، المتخم بفكرة اللاكرامة، إن هذه المطالب المتعلقة باحترام الكرامة الإنسانية، تتضمن في عمقها الأخذ بعين الاعتبار ” الإنسان كشخص ” أي كائن يتمتع بحقوق محددة وضرورية، يعيشها بشكل مباشر في كل زمان ومكان؛ “هنا والآن”؛ (يؤكد المفكلر الألماني بلوخ BLOCH في هذه المسألة أن حقوق الإنسان مجالها المعياري وأحكامها لا رجعة فيها، الأمر الذي يجعل منها حقوق منتزعة ، تأخذ ولا تعطى، أي أنها تظهر في المجتمع من خلال نضال الإنسان المستمر.هذا الطرح يجود المد الوضعي إذ يتبين أنه لا يقول بطبيعية الحقوق).
وما دام موضوع الكرامة حسب رينار فورست  مطروح من داخل الزاوية النقدية، خصوصا الاجتماعية، فيمكننا أن نستقصي في هذا الطرح بعدين من النقاش الاجتماعي حول الكرامة وهما:
الأول : بعد واقعي اجتماعي قح
الثاني : بعد معياري مثالي
فالبعد الأول يميل إلى الوصفية أكثر منه إلى النقد المؤسس للفهم الممكن حول قضايا المجتمع، أما الثاني يخول لنا فرصة الانتقاد المؤقت أو الجذري للواقع، مع العلم أن من يمارسون هذا النقد يدركون بشكل كبير أن هذا النقد ليس أقل واقعية من الواقع الذي لا يريدون التماشي معه، لكن أليس هذا النقد هو ما يجعل المنتقد دائما يعيش خارج دائرة الواقع الذي ينتقد حتى لو كان ذلك بشكل نسبي؟
من داخل مشروع الفلسفة الاجتماعية، يوجد تداخل واضح بين مطلب الكرامة والسؤال الفلسفي الاجتماعي ذاته. إذ يركز هذا السؤال حول الاستشكال الدائم عن طبيعة الكرامة وضرورة وجودها في الحياة الإنسانية. كما يتيح لنا السؤال الفلسفي في هذا المنحى، الانخراط في التبرير السياسي للكرامة والدفاع عن هذا التبرير، عوض اعتماد التبريرات الدينية المتعالية التي لا تتماهى مع الفهم المعياري التاريخي.
هذا الفهم السياقي يجعل من الشخص ذاته مؤسسا للنقد، و واضعا للمرجعيات الأولى التي تبني المطالب الأخلاقية المتضمنة لكل ما هو مختلف عن المعايير الاجتماعية الجماعاتية المخسسة في كثير من الأحيان لقيمة الوعي الفردي.
              فالشخص هو موجود يمكنه أن يمدنا بوعي خاص حول الكرامة ويبرر  له كذلك، حتى لا يبقى  هذا المعطى حبيس تبريرات المجتمع، إن الشخص لكي يحقق حياة إنسانية كريمة لابد من توفره على هذا الحق في التبرير لأنه بحاجة دائمة له.
               إن الكرامة هي من تعطي للشخص الشعور بامتلاك الحق في التبرير لكل أفعاله التي يجب أن تنضوي تحت ما هو أخلاقي، هذا يعني أن كل شخص أخلاقي محتوم عليه أن ينتج تبريرات وبطريقة انعكاسية.و من هنا؛ نفهم أن الحق في التبرير حق يؤسس لشرط الوجود الإنساني ضمن فضاء اجتماعي معين، هذا الفضاء الذي يصير بالضرورة فضاءا للعقل، بحيث يتشرع هذا التواجد الاجتماعي للشخص داخل فضاء العقل، ليشرح لماذا الدفاع عن الحق في التبرير.
                ويرى ” رينار فورست ” أن الحق في التبرير يتيح لنا إمكانية فلسفية حول معرفة طريقة الحياة؛ ضمن عالمين أو ثلاثة في وقت واحد، فالأول هو عالم التبريرات الكائنة، والثاني هو عالم التبريرات المعيارية الممكنة التي تأخذ معنى قبلي أو أفلاطوني، والثالث عالم النقد والنقاش الذي يتضمن في جوفه إمكانية التنسيق والجمع بين العالمين السابقين. بهذا المعنى يمكننا أن نفهم المجتمع كنظام للتبريرات، لا تقول ما لا يتوفر على سياقات وسرديات التبرير المقعدة اجتماعيا، لكنها تقول ما هو موجود من مطالب أساسية؛ والتي تم التحاور بشأنها عبر جميع السياقات والأوامر الأخلاقية الجديدة. إن هذا الوضع يعزز مكانتنا كمعياريين في فضاء معياري للعقول الناقدة المتناقشة، وبهذه الدلالة فقط يكون الشخص موجود ” ينتقد ” ومنخرط في حركية التبرير المتعددة والمتجددة.
              إذن؛ أن وجود الكرامة كمبدإ مؤسس للحق في التبرير يعطينا التركيبة الأساسية لقيام نقاش حر و أخلاقي ضمن فضاء سياسي يقوم على مبادئ واحدة للحوار يلتزم بها جميع الأشخاص من جهة، وعلى عقول متعددة ومختلفة من جهة ثانية. و في هذا السياق  يسمح لنا الحق في التبرير بالتحرر من كل وجود ذوغمائي يفقد الآخرين كرامتهم أو يعاملهم بعجرفة، بمعنى؛ يضمن الحق في التبرير الاعتراف بتواجد المختلف عني معي في نفس الفضاء، إذ يجب علي احترامه والاعتراف به.
إن احترام الأشخاص الآخرين؛ هو الضامن الرئيس لكرامتهم وحقهم في التبرير مما يجعل انتهاك وضعهم الأخلاقي أو تجاهل القضايا التي تهمهم أمرا مستحيلا.
           ويرى “رينارفورست” في هذا السياق أن التأكيد على الكرامة والنضال من أجلها؛ هو نتيجة لمسيرة تاريخية مطولة من التجددات الفكرية و التي غيرت من طبيعة المفهوم ذاته، لكنه يعتقد أن المفهوم الصحيح للكرامة تأسس من خلال الاستخدام الذاتي للكرامة في مواجهة كل أشكال الهيمنة التي غالبا ما فرضها المستعمر الخارجي، أو ضد الاستلاب الذي يفقد الإنسان حريته ومعناه. بالإضافة إلى ذلك فالدلالة الحقيقية للمواطن لا تتكون إلا  من خلال وجود الكرامة التي تعني أن الإنسان هو المسؤول عن تحديد ذاته؛ في خصائص وسمات عقلانية مبررة خصوصا على المستويين الأخلاقي والسياسي.
               و الحق في تحديد الذات ننطلق فيه من الاعتراف بالمساواة بيننا والآخرين في الحقوق، خصوصا الاعتراف بحقهم في التبرير، هذا الحق الذي يعتبر أساس كل الحقوق المدنية الأخرى، لأن هذا الحق هو ما يتيح للأشخاص فرصة تبادل المضامين والمبررات فيما بينهم، كما يشرع لعدم حرمان أي شخص من امتلاك سلطة التبرير.
                  وبما أن الحق في التبرير أساس كل الحقوق الأخرى، فهذا يفيد أوتوماتيكيا أنه حق كوني يتعالى عن كل السياقات الاجتماعية والأخلاقية الخاصة والتي تتعارض أحيانا مع الحق في التبرير. لأن هذه السياقات الأخلاقية والاجتماعية على وعي بخطورة التبرير في نقد السلطة، هذه الأخيرة التي تعمل من خلال الخطاب السياسي عل إفراغ الحقوق الأساسية للإنسان من مضمونها. بهذا يكون الحق في التبرير سلاحا نقديا يعيد الاعتبار لحقوق الإنسان القائمة أساسا على مفهوم كوني للكرامة، بل و أكثر من ذلك؛ يأخذ روحه من التصور الكانطي للإنسان باعتباره غاية لا وسيلة.
             في هذا السياق يغدو الحق في التبرير سلطة في يد الشخص لإقناع الآخرين بأفكاره، هذه السلطة التي تتحدد في كونها ظاهرة خطابية منظمة ومؤثرة في فضاء العقول.فالتبرير بهذا المعنى لا ينطلق من القوة المادية بل من القدرة الشخصية على قيادة مجموعة من الأشخاص داخل فضاء العقول في وضعيات محددة، وهذا لا يعني أن التبرير سلطة سلبية عندما نتحدث عن فعل الانسياق، لكن هذا الأمر هو؛ من صميم فضاء العقول الذي لا يوجد إلا بوجود سلطة التبريرات. لكن السؤال الذي يطرح ذاته هنا؛ لماذا يتم استعمال مفهوم السلطة في قضية عملية ؟ ألا يمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى ظهور صراع السلط التبريرية أو الندية ؟ { يبدو أن “رينار فورست في هذه النقطة يستحضر ميشيل فوكو ونيتشه في شرحه لما يسمى علاقات السلطة } .
               لا يمكن نفي وجود “السلطة” في الحلبة الدينامية للتبريرات، لأن هذه الأخيرة تأخذ صورتها الأساسية من التدافع الإيجابي بين التعدديات، التي ستعين لا محالة مستقبلا أشكالا متعددة من الهيمنة. بحيث يمكنها اما أن تؤكد أو تنفي المجالات الأخرى ( الدين – الاقتصاد – التقاليد – السياسة….).
                 بهذا المعنى يمكن للتبريرات المهيمنة داخل فضاء العقول، أن تعيد تشكيل الإيديولوجيا العامة لهذا الفضاء ذاته.
                   إن فكرة الكرامة هي التي تعطي الوجود للحق في التبرير، كما تؤسس للاستقلالية الأخلاقية، إلا أنها تواجه مشكلة نوعية من حيث تواجدها في الواقع؛ تتعلق بالمحايثة و التعالي الثقافيين.
                  و هذا المعطى يفتح فكرة الكرامة على نوعين مختلفين من الأخلاق، وهما؛ أولا؛ الأخلاق، وثانيا؛ الحياة أو المعاملات الأخلاقية. فالأولى تعنى بالقيم الكبرى المؤسسة لكونية حقوق الإنسان. أما الثانية تهتم بما هو خاص، أي بقيم الثقافات و الجماعات في إطارها العملي. فالأخلاق متعالية و المعاملات الأخلاقية محايثة.
                    و إذا كانت الكرامة فكرة كونية ترتبط بالاستقلالية الذاتية للشخص فهي تتوافق إذن مع الأخلاق، لكن كيف يمكن دمجها في سياقات خاصة ؟ هنا بالضبط نحتاج إلى الحق في التبرير، لكي ندافع عن كونية الكرامة ضد كل أشكال الخصوصية، و هذا بطبيعة الحال الطريق الأنسب لقيام العدالة.
وهكذا تغدو السلطة الخطابية-بما هي تجلي واقعي للحق في التبرير- هي المشكل لكل الخطابات الاجتماعية ذات الطابع السياسي،بحيث ينكشف لنا في ظلها الفضاء الاجتماعي كفضاء للعقول الممتلكة للحق في التبرير.
         إن سلاح المواجهة من أجل الإنسانية لا يكون إلا  بالكرامة- التي هي في الأصل “حق طبيعي”-  و الحق في التبرير كشكل من أشكال النقد الاجتماعي المؤسس للمواطنة الحرة.
                حاصل القول؛ يوجد في عمق كل أشكال النقد، مطلب مركزي هو؛ الكرامة بما هي المحددة لشخصية الإنسان واستقلاليته، المبررة لأخلاقه داخل فضاء العقول المحترم للتعددية ضمن وحدة المجال.و لقيام هذا الطابع الأخلاقي للكرامة، نراعي في ذلك المفهوم الكوني للإنسانية أكثر منه المفهوم المتعلق بالخصوصيات التي تؤسس في كثير من الأوقات للامساواة الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية.  إن المواجهة من أجل الكرامة بمعناها الكوني هي مواجهة من أجل العدالة.

ملحوظة : اعتمدت في هذه الورقة فقط على مقال ” رينار فورست ” المواجهة من أجــــــل الكرامة : الحاجة إلى الحق في التبرير؛  باللغة الفرنسية.
RAINER FORST ET AURELIEN ALLARD, LE COMBAT POUR LA DIGNITE : EXIGER UN DROIT A LA JUSTIFICATION.
 EDITIONS ESPRIT 2014 /10 – OCTOBRE, P.P.32 A 47
Article disponible en ligne a l’adresse.  www.cairn.info

إغلاق