محور العقلانية العلمية – مفهوم النظرية والتجربة

نقدم في مومقعنا فيلوكلوب: نادي الفلسفة، هذا الدرس وهو درس محور العقلانية العلمية – وهو المحور الثاني من مفهوم النظرية والتجربة من مجزوءة المعرفة. ونود الإشارة إلى أن هذا مجرد ملخص للاستئناس به.

العقلانية العلمية

تقديم وتأطير المحور

إن البحث في مسألة العقلانية العلمية، يعني البحث في العلاقة بين العقل والعلم،  وأيضا البحث في الكيفية التي تكون بها  المعرفة العلمية، وما تشمله من نظريات  وقوانين، معرفة معقولة، كما يعني البحث في أدوار ومهام العقل في العلم، وإن كان العقل هو منطلق وأساس بناء المعرفة العلمية وبناء النظريات العلمية. ومنه يمكن أن نتساءل: ما طبيعة العلاقنية العلمية؟ وما هو دور العقل في العلم؟ هل العقل هو أساس ومنطلق بناء المعرفة العلمية وبناء النظريات العلمية؟ وهل القول بأهمية العقل في العلم ينفي أهمية التجربة وأهمية والوقائع التجريبية؟ وهل يمكن للمعرفة العلمية والنظريات العلمية أن تكون نتيجة للحوار الجدلي بين العقل ومبادئه وبين التجربة والوقائع التجريبية؟

تصورات ومواقف فلسفية لمعالجة موضوع العقلانية العلمية

لمعالجة موضوع العقلانية العلمية يمكن توظيف مجموعة من التصورات والمواقف سواء التي تنتمي للمجال الفلسفي أو التي تنتمي للمجال العلمي. وسنشتغل هنا على تصورات ومواقف كل من:

  • ألبرت أينشتاين: العقلانية العلمية
  • هانز رايشنباخ: المعقولية العلمية
  • غاستون باشلار: العقلانية المطبقة
  • موقف ألبرت آينشتاين: العقل هو منطلق بناء المعرفة العلمية

يؤكد العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين أن العقل هو منطلق ونهاية معارفنا حول الواقع، وأنه هو صاحب المبادرة والأولوية مقارنة بالتجربة، أما التجربة فيجب أن ترتبط بالعقل. وفي هذا السياق يقول آينشتاين: “إن العقل يمنح النسق الفيزيائي بنيته، أما التجربة وعلاقتها المتبادلة فيجب أن تطابق نتائج النظرية”.

إضافة إلى ذلك يرى أينشتاين أن البناء الرياضي الخالص يسمح باكتشاف المفاهيم والقوانين التي تربط بين تلك المفاهيم، يقول ألبرت أينشتاين: “أنا متيقن أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تربط بينها والتي تمكننا من مفتاح فهم ظواهر الطبيعة”. ومن خلال هذا القول يتضح أن العقل والبناء الرياضي هو مفتاح فهم الطبيعة وفهم ظواهرها. ولبيان أهمية العقل في العلم يمكن أن نستأنس بقول أينشتاين “المبدأ الخلاق في العلم يوجد في الرياضيات”، وهو قول يؤكد أن العقل الرياضي قادر على إبداع وخلق المفاهيم والقوانين والنظريات

بخصوص العقلانية العلمية يمكن الاننفتاح على موقف روني طوم والذي يؤكد على أهمية العقل و: يقول روني طوم: إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما… ولا يمكن له لكي يكون علميا وذا مغزى أن يستغني عن التفكير”

أهمية الموقف:

تتجلى أهمية الموقف في كشفه للدور الفعال للعقل في العلم وفي بناء المعرفة العلمية، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نختلف فيه، وبشكل خاص حين يتعلق الأمر بظواهر لا يمكن دراستها تجريبيا، أي ظواهر لا يمكن إخضاعها للمنهج التجريبي، مثل الظواهر التي تدرسها الفيزياء النظرية، كالالماكروفيزيائية والظواهر الميكيروفيزيائية. فهي ظواهر تتم دراستها اعتمادا على الاستنباط العقلي واعتمادا على العقل الرياضي. أبرز مثال يمكن تقديمها هي المعادلة التي توصل إليها أينشتاين دون اعتماد على التجربة والتي تقول: E=MC2.

  • موقف هانز رايشنباخ: نقد العقلانية 

يرفض الفيلسوف وعالم المنطق ولفيزياء الألماني، هانز رايشنباخ، استعمال مفهوم “العقلانية العلمية” في مجال العلوم التجريبية. فالعقلانية في نظره،  مذهب مثالي مجرد، يعتبر العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، في حين أن التجربة وفق منظور رايشنباخ تعتبر مصدر كل معرفة. لكن لا يعد إبعاد مصطلح العقلانية العلمية إبعادا للعقل عن العلم، لأن العلم يقتضي “استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة”، اي استخدام العقل من خلال القيام بالممارسة التجريبية لا منفصلا عنها، وهذا ما يسميه هانز رايشنباخ ب”المعقولية العلمية”.

يمكن الانفتاح على موقف العالم كلود برنارد، والذي يتحدث عن أهمية التجربة والاختبار التجريبي، يقول كلود برنار: “ليست النظرية عدا الفكرة العلمية المراقبة من طرف التجربة”

  • موقف غاستون باشلار: ضرورة الحوار بين العقل والتجربة (العقلانية المطبقة).

على خلاف العقلانية المثالية التي ترفض الإقرار بأهمية التجربة ودورها الحاسم في العلم، وعلى خلاف الاختبارية التي ترى أن للعقل دورا ثانويا فقط، يؤكد باشلار على أن كلا من العقل والتجربة في حاجة إلى بعضهما البعض، وأن المعرفة العلمية وخاصة في الفيزياء المعاصرة لا يمكن أن تتم إذا تم الاستغناء عن أحد الطرفين، وهذا ما يؤكده قوله: ” لا توجد عقلانية فارغة، كما لا توجد اختبارية عمياء”، ومضمون هذا القول، أن العقلانية في حاجة إلى العودة إلى الواقع، وإلا كانت عقلانية فارغة، وأن الاختبارية يجب أن توجه عبر العقل ومبادئه، وإلا كانت اختبارية عمياء.

في ذات السياق  يؤكد باشلار على ضرورة إجراء حوار دقيق ووثيق بين كل من العقل والواقع، في بناء المعرفة العلمية، وهو الحوار الذي كان غائبا قديما.  كما أن باشلار يؤكد أن عالِم الفيزياء المعاصر يحتاج ليقين مزدوج:  اليقين الأول هو يقين بوجود الواقع في قبضة ما هو عقلي، فيكون بذلك مستحقا لاسم الواقع العلمي؛ أما اليقين الثاني فهو يقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات هذه التجربة.

من هنا يتبين كيف أن غاستون باشلار ينتقد الفلسفة الوضعية كنزعة تجريبية وينتقد الفلسفات العقلانية في تنوعها واختلاف توجهاتها الفلسفية والعلمية على السواء، ويدعوا إلى اعتماد التجربة والعقل معا، وعقد حوار جدلي بينهما.

للانفتاح: يقول إيمانويل كانط : “على عقلنا أن يتوجه نحو الطبيعة ماسكا بإحدى يديه مبادئه وبيده الأخرى التجربة”.

  • خلاصة تركيبية لمحور العقلانية العلمية

حاصل القول أن العقل يبقى عمادا من أعمدة العلم، فهو الذي يمنح المعرفة العلمية وما تتضمنه من نظريات معقوليتها، وترابطها، وتماسكها المنطقي، والاقرار بأهمية العقل، هو إقرار بأهمية الأبنية النظرية، والأنساق الرياضية، وهو أيضا إقرار بأهمية الخيال. لكن العقل العلمي لا يمكنه الاستغناء عن التجربة، كما لا يمكنه الانفصال عن الواقع، الذي يلعب دورا أساسيا في العلم، فهو الذي يغني المعرفة العلمية بالحجج والأدلة الواقعية.

أما الاختلاف بين العلماء والإبستمولوجيين بخصوص طبيعة العقلانية العلمية، وبخصوص دور كل من العقل والتجربة، فمرده خصوصية الوقائع المدروسة، فدراسة واقعة مادية يمكن اخضاعها للمنهج التجريبي ويمكن ملاحظتها بشكل مباشر، ليس كدراسة واقعة لا يمكن ملاحظتها مباشرة، ولا يمكن إخضاعها للمنهج التجريبي، كالظواهر الميكروفيزيائية متناهية الصغر، و الظواهر الماكروفيزياءية متناهية الكبر. وإذا كنا نعتمد في دراسة الأولى على الاختبار التجريبي بشكل أساسي، ففي دراسة الثانية يستحيل ذلك، ويتوجب علينا اعتماد العقل والخيال والاستنباط المنطقي بشكل أساسي.

ويمكن أن نختم حديثنا عن  العقلانية العلمية، بالتشبيه الذي أقامه فرانسيس بيكون، حيث شبه  العقلانيين المتعالين عن الواقع بالعناكب، لأن العناكب تبني بيوتها اعتمادا فقط على مادة تستخلصها من ذاتها. بينما شبه الاختباريين بالنمل، لأن النمل يعتمد فقط على ما خارجي. أما الفيلسوف الحق، فشبه عمله بعمل النحل، الذي لا يعتمد فقط على قدراته الطبيعية، وإنما يعتمد على قدراتها الخاصة وأيضا على ما هو خارجي..

شاهد أيضا:

  1. المحور الأول: محور التجربة والتجريب
  2. المحور الثاني: العقلانية العلمية
  3. المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية

إغلاق