ثوريةً الفنِ: الارتقاء بالحسِ الجماليِ، تجاوزُ للمشكلةُ الحضاريةُ “شيلر” أنموذجا

ثوريةً الفنِ: الارتقاء بالحسِ الجماليِ، تجاوزُ للمشكلةُ الحضاريةُ  “شيلر” أنموذجا

حظي علمُ الجمالِ في سياقِ الدراساتِ الألمانيةِ باهتمامٍ خاصٍ، عرفَ بأنهُ علمٌ ألمانيٌ بامتيازٍ، ولمْ يعرفْ الاستقلالُ الذاتيُ عنْ نظرياتِ المعرفةِ والخيرِ والسلوكِ الأخلاقيِ، إلا معَ الفيلسوفِ الألمانيِ “بومجارتنْ”. وبهذا صارَ لعلمُ الجمالُ فضاءه المستقلِ، فترسخَ مفهومُ الجمالِ كعلمٍ وزادتْ الدراساتُ حولهُ، خاصةٌ معَ “كانط”، كما ساعدتْ حركةَ التنويرِ في أوروبا على استقلالِ علمِ الجمالِ، ولعلَ منْ أهمِ المسائلِ التي ظهرتْ بشكلٍ بارزٍ في ظلِ هذا التطورِ، تحولَ الإلهُ العظيمةُ (العقلَ) إلى مجردِ آلة صماءَ عاجزةٍ عنْ الفهمِ والنقدِ الموضوعيِ للواقعِ والمجتمعِ ومنْ هنا اختلتْ المعادلةُ بينَ العقلِ والواقعِ، هذا ما أدى إلى تردي المجتمعِ وتشيءُ الإنسانَ، فبرزتْ صعوبةُ إيجادِ الوسيلةِ الفضلى للانتقالُ منْ حالةِ الطبيعةِ إلى الحالةِ الأخلاقيةِ. منْ هذا المنطلقِ يعتبرُ “شيلرْ” منْ الفلاسفةِ الذينَ حاولوا إيجادُ حلٍ لهذهِ الأزمة الحضاريةَ في إطارٍ جماليٍ ومنْ هنا نتساءلُ كيفَ يمكنُ للجماليةِ “الشيلريهْ” أنْ ترتقيَ بالحسِ الجماليِ وتتجاوزُ المشكلةُ الحضاريةُ  ؟

يعتبرَ “شيلرْ” فيلسوفُ العبقريةِ المزدوجةِ حيثُ حاولَ الجمعُ بينَ عبقريةِ “كانط” في الفلسفةِ، وعبقريهْ “جوتة” في نظرِته الشعريةِ للكونِ، وتأثرَ بأستاذهِ “أبل” الذي تحول من الطب إلى الفلسفةِ. كلَ هذا ساهمَ في توجيهِ ميولِ “شيلرْ” لدراسةِ الفلسفةِ. يؤكدَ على القوةِ المتوسطةِ للجمالَ في تحقيقِ التوازنِ بينَ الحياةِ والأخلاقِ لنستشفَ منْ كلِ هذا النزعةُ “التأليفيةُ” “التوفيقيةُ” في الفكرِ “الشيلري” (الفلسفةُ، الأدبَ، البيولوجيا).

لقدْ اهتمَ فيلسوفنا(شيلر) بالجمالِ، حيثُ جعلهُ موضوعا مركزيا في كلِ أعمالهِ، في الكمالِ البشريِ، منْ هنا علينا أنْ نفهمَ ما هوَ الفنُ عندهُ وكيفَ يساهمُ اللعبُ في تحقيقِ الانسجامِ بينَ قوى الإنسانِ؟ وما هيَ التربيةُ الجماليةُ التي خصصَ لها كتابهِ، “الموسومِ بوسائلَ في التربيةِ الجماليةِ للإنسانِ” ؟

اعتبرَ “شيلر” بأنَ الإنسانَ لمْ يستطعْ أنْ يحققَ الانسجامُ والتكاملُ بينَ الإنسانِ وعالمهِ، فأصبحَ منذُ ولوجهِ عالمَ الحداثةِ التي تزامنتْ معَ عصرِ التنويرِ يعيشُ في وضعيةٍ مزريةٍ. وفي هذا المنطلقِ أصبحتْ الشاعرُ يبحثُ عنْ تحقيقِ الوحدةِ والانسجامِ. فمهمةَ الفنانِ تتمثلُ في الحفاظِ على كرامةِ الإنسانِ، وهذا ما دافع  عنهُ “شيلر” حتى نهايةِ حياته ولأهميةِ الفنِ فقدَ حملةِ “شيلرْ” وظائفَ عدةً أهمها الحريةُ والتوازنُ الكليُ للنفسِ وتجاوزِ المشكلةِ الحضاريةِ.

ومنْ هنا تظهرُ الحاجةُ إلى التربيةِ الجماليةِ التي تعتبرُ أداهُ لتحقيقِ الحريةِ وهنا تظهرُ قيمةَ عملِ “شيلرْ” “رسائلَ في التربيةِ الجماليةِ”، تساءلُ “شيلرْ” عنْ كيفيةِ حلِ الصراعِ بينَ الطبيعةِ والعقلِ؟

يجيبُ. أنَ الحلَ يكونُ في الفنِ، فالفنِ هوَ الإنسانُ فهوَ تصالحُ قوى الإنسانِ المجزأةِ بمصالحهِ طبيعته الحساسةِ وطبيعتهِ العاقلةِ، هنا تظهرُ ثوريةً الفنِ عندهُ. ونلاحظُ أنَ “شيلرْ” يتفقُ معَ “ريتشاردْ فاغنرْ”،

إن حل ألازمهُ لا يقتصرُ على الجمالياتِ وحدها، ولا على الفردِ فقطْ وإنما التربيةُ الجماليةُ، امتداد لحلِ ألازمهُ، منْ هنا نستشفُ أنَ “شيلرْ، يطرحُ المشكلةَ السياسيةَ ويعتبرُ أنَ الجمالياتِ يمكنُ منْ خلالها حلٌ ألازمهُ السياسيةَ، لأنَ الجمالَ يقودُ إلى العقلِ والحريةِ، والدولةِ عجزهُ عنْ مساعدتهِ، لذلكَ فالحلِ هوَ الإحساسُ الجماليُ وحبُ الجمالِ، أيْ أنَ الطريقةَ الأنسبَ لجعلِ الإنسانِ الحسيِ عقلانيا، هي جعلهُ جمليا أولاً، وبهذا ينشأُ الفنُ الذي يحيي الدولةَ ويعدُ لها. هذا ما يبررُ اهتمامهُ بالمسرحِ حيثُ بينَ أنَ حل ألازمهُ الحضاريةَ لا يكمنُ في الثوراتِ التي تقومُ بها الفئاتُ الشعبيةُ لأنَ فيهِ خروجٌ عنْ القانونِ، وإنما الحلُ يكونُ عنْ طريقِ الفنِ والتربيةِ الجماليةِ، وأرادَ منْ خلالِ المسرحيةِ أنْ يحاكمَ المجتمعُ بحاكمٍ عادلٍ هوَ المسرحُ وهنا تبرزُ مكانةَ المسرحِ في التغييرِ وتعدُ ما هوَ قائمٌ، فالفنُ يفصحُ عما عجز عن قولهُ المجتمعُ.

إن الثورةَ الجماليةَ عند “شيلرْ” هيَ احتجاجٌ على الواقعِ فهيَ نقدٌ وتجاوزٌ وتصدي لهيمنةِ الحضارةِ، وبهذا فالعمل الفنيُ المستقلُ، هوَ ثقةٌ للواقعِ وتغييرهِ منْ خلالِ خلقِ صورٍ جديدةٍ، هيَ بمثابةِ واقعٍ إنسانيٍ آخرٍ مغايرٍ نوعيا لما هوَ قائمُ.

أخير فإنَ المسالةَ الجماليةِ كفيلةً بحلِ المشكلِ السياسيِ، لأنهُ منْ خلالِ الجمالِ نعبرُ إلى عالمِ الحريةِ، رغمَ أنَ جماليةَ “شيلرْ” لقيتْ عدةَ انتقاداتِ كونها جماليةً ذاتَ نزعةٍ “يوتوبيةٍ” يصعبُ تحقيقها في مجتمعٍ معقدٍ التركيبِ وحضارةِ قمعيةٍ ذاتِ أسسٍ متينةٍ.

حورية الزريعي ــ بوعدي/  أستاذة في مجال الفلسفة

 

إغلاق