مفهوم الحقيقة: الحقيقة والٍرأي، معايير الحقيقة، الحقيقة بوصفها قيمة

مفهوم الحقيقة: الحقيقة والٍرأي، معايير الحقيقة، الحقيقة بوصفها قيمة
محاور الدرس: 
  1. تقديم بخصوص قضية الحقيقة
  2. أولا: الرأي والحقيقة
  3. ثالنيا: معايير الحقيقة
  4. ثالثا: الحقيقة بوصفها قيمة
  5. خلاصة تركيبية لمفهوم الحقيقة

تقديم بخصوص قضية الحقيقة

لقد شكل مفهوم الحقيقة مفهوما إشكاليا داخل الخطابين الفلسفي والإبستمولوجي، ولعله من أبرز القضايا التي أثيرت حولها الكثير من التساؤلات والإشكالات، فالحديث عن الحقيقة حديث عن همٍّ ومطلبٍ إنسانيين، و يمكن العودة إلى الواقع لمعرفة ما للحقيقة من أهمية وراهنية لا سواء في المجال الإجتماعي أو الديني أو السياسي أو العلمي… لكن تصورنا لدلالة مفهوم الحقيقة ليس واحدا. ولذلك لابد أولا أن نكشف دلالتها.

تدل لفظة الحقيقة من الناحية اللغوية على الحق واليقين والصدق، فهي تأتي في مقابل الكذب والباطل والوهم والمجاز. أما من الناحية الفلسفية، فالحقيقة كمفهوم تشير إلى مطابقة ما في العقل لما في الواقع حسب التجريبيين، وإلى مطابقة العقل لذاته حسب العقلانيين. ويعرفها الفيلسوف الألماني هايدغر بقوله:  “الحقيقي، سواء كان شيئا أو حكما، هو ما يتوافق ويتطابق، الحقيقي والحقيقة، يعنيان هذا التوافق  (التطابق)، وذلك بطريقة مزدوجة: أولا بين الشيء وما نتصوره عنه، ثم كتطابق بين ما يدل عليه الملفوظ وبين الشيء“.
إن ما يمكن أن نستنتجه انطلاقا من تعريفنا للحقيقة هو صعوبة الحسم في مدلولها وهذا ما يجعل منها قضية إشكالية بامتياز، ولما لا و كل مجالات المعرفة التاريخية والدينة والإنسانية والعلمية … تتطرق إلى الحقيقة، من حيث أنها غاية كل معرفة. كل ذلك يدفعا إلى طرح مجموعة من التساؤلات أبرزها:
  • هل الحقيقة معطاة أم مبناة؟ وهل يمكن اعتماد الرأي في بناء الحقيقة؟
  • هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ وهل يمكن القول بحقيقة واحدة أم بحقائق متعددة؟
  • ما معايير الحقيقة؟
  • كيف تتحدد القيمة كقيمة؟

المحور الأول: الرأي والحقيقة

في دلالة مفهومي الرأي والحقيقة

مفهوم الرأي : “حالة ذهنية تتمثل في الإعتقاد بصحة قول معين، مع القبول بإمكان الخطأ أثناء حكمنا هذا.” إذن فالرأي جاهز، ومعطى وليس  مبنيا.
مفهوم الحقيقة: “في التعريف الفلسفي التقليدي تعني الحقيقة مطابقة الفكر لذاته أو للواقع أو لهما معا “
الإشكال: ما علاقة الرأي بالحقيقة؟ هل هي علاقة تلازم أم علاقة تعارض؟ وهل يمكن اعتماد الرأي في بناء الحقيقة؟  وهل الحقيقة معطاة أم مبناة؟

الموقف الأول: الرأي القائم على الاحتمال يستحق اسم معرفة

 
صاحب الموقف:  الفيلسوف والعالم الألماني غوتفريد لايبنـز ، ( 1646-1716) ، من مؤلفاته: “أبحاث جديدة في الفهم الإنساني”.
موقف الفيلسوف
يؤكد الفيلسوف الألماني لايبنز، في كتابه “أبحاث جديدة في الفهم البشري”، على أن الرأي القائم على الإحتمال يستحق اسم معرفة. ويقصد بالراي القائم على الإحتمال، الراي الذي يتضمن قدرا من المعقولية والصواب، أي الرأي الذي يكون احتمال صوابه أكثر من احتمال خطأه. ويقدم لايبنز مثالا لمعرفة تتأسس بشكل أساسي على الإحتمال، وهي المعرفة التاريخية، ويرى بأنه إذا تم استبعاد الرأي القائم على الإحتمال فسيؤدي إلى إسقاط هذه المعرفة، فهذه المعرفة لا تقوم على الإطلاق والقطعية بل على العكس من ذلك فهي تقوم على الإحتمال والنسبية. زيادة على ذلك يقدم مثالا لرأي علمي أثبِت صدقه، وهو رأي كوبرنيك القائل بمركزية الشمس. فقد كان وحيدا في رأيه، إلا أن رأيه كان أكثر احتمالا بشكر لا يقبل المقارنة مع رأي باقي النوع البشري، وهو الآن يعتبر من بين الحقائق العلمية التي لا يمكن تكذيبها.
أهمية الموقف:  لا يمكن أن ننفي ما لموقف لايبنز من أهمية، وبه ما للرأي من أهمية، لا سواء في مجال العلوم الإنسانية، ولا سواء في مجال العلوم الطبيعية. فالتاريخ كعلم إنساني يتأسس على الرأي القائم على الإحتمال حقا، وأيضا في العلوم الطبيعية فالرأي يمكن أن يكون طريقا لبوغ الحقيقة إذا كان رأيا يحتمل صدقه.
إحراج: لكن ألا يمكن أن يكون الرأي عائقا ابستمولوجيا أمام محاولة بناء الحقيقة؟

 

الموقف الثاني: الرأي عائق ابستمولوجي

يمثل هذا الموقف مجموعة من الفلاسفة والإبستمولوجيين نخص بالذكر غاستون باشلار  . فقد ذهب غاستون باشلار  في “كتابه تكون الفكر العلمي” إلى اعتبار الرأي عائقا يحول دون بناء معرفة علمية حقيقية، ولذلك وجب القطع مع الرأي، لأن الرأي حسب باشلار نوع من التفكير السيء، بل أكثر من ذلك فهو ليس بتفكير على الإطلاق. زد على ذلك أنه لا يقوم إلا بترجمة  الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها، ومن ثم فالرأي يحرم نفسه من معرفتها حق المعرفة، لذلك يقول باشلار: “إننا لا نستطيع أ ن نؤسس أي شيء كيفما كان انطلاقا من الرأي، ولذلك يجب القضاء عليه أولا ، إن التفكير العلمي يمنعنا من تكوين رأي بخصوص مسائل لا نفهمها، أي بخصوص مسائل لا نعرف كيفية صياغتها بشكل واضح…”. وبالتالي فالرأي الشخصي حسب باشلار لا يتأسس على الحجاج الاستدلالي، والتماسك المنطقي ، والمعرفة الحقة ، والاستنتاج المتماسك نظريا وتطبيقيا، وأنما يقوم على الآراء الذاتية الشخصية النابعة من الوجدان والعاطفة، والمرتبطة بالمنافع البشرية والمصالح الإيديولوجية. بذلك لابد من القضاء على الرأي لغاية تأسيس معرفة علمية موضوعية ويقينية.
قيمة الموقف: لا يمكن أن ننكر ما لموقف من باشلار من أهمية، فهو أولا موقف تعرض لقضية ابستمولوجية بامتياز وهي  قضية الحقيقة وخاصة الحقيقة العلمية، وتناولها من زاوية علاقتها بالراي. وثانيا قام بتبيان عيوب ونواقص الرأي من حيث أنه يتأسس على المنفعة، والمنفعة يمكن أن تحيد بنا عن الحقيقة، وهنا يمكن أن نقدم مثالا لرأي تأسس على أساس نفعي  وإيديولوجيي، وحاد به وبأصحابه عن منطق الحقيقية والعلمية وهو رأي الكنيسة في القرون الوسطى بخصوص مركزية الأرض، فقد كانت الكنيسة تقول بثبات الأرض ومركزيتها، لغاية واحدة، وهي أن لا تتناقض مع ما جاء في الكتاب المقدس، وأن لا تفقد شرعيتها أمام جمهور المؤمنين بمعتقداتها، وهو رأي أثبت خطأه فيما بعد.
إحراج: رغم كل ذلك، ألا يمكن القول بأن إبعاد الرأي قد يؤدي إلى قتل المعرفة القائمة على الاحتمال كالمعرفة التاريخية؟ ويؤدي إلى تقييد الحقيقة؟ وألا يمكن أن يكون الرأي سبيلا إلى البناء النقدي للحقيقة؟

خلاصة تركيبية

إن ما يمكن أن نخلص إليه بخصوص إشكال علاقة الرأي بالحقيقة، وإمكان اعتماد الرأي في بناء الحقيقة، هو أن الرأي يمكن أن يكون طريقا للحقيقة حين يكون الراي قائما على الإحتمال، وحين يكون احتمال صوابه أكثر من احتمال خطأه. إلا أن الرأي ليس دائما اساسا وطريقا للحقيقة، فالراي قد يتأسس على المنفعة والمصلحة والذاتية، ما يجعله يقف كعائق إبستمولوجي أمام الحقيقية والمعرفة، وخاصة المعرفة العلمية التي يأخذ الموضوعية كركيزة من ركائزها. كل هذا يجعل من قضية الحقيقة  قضية إشكالية، فهي تفتحنا على إشكال آخر وهو المتعلق بمعاييرها. فما معايير الحقيقة؟

المحور الثاني: معايير الحقيقة

التأطير الإشكالي

إن اختلاف موضوعات ومجالات الحقيقة، قد يؤدي إلى القول بتعددها، وهذا ما يفتحنا أمام  إشكال من بين الإشكالات التي تطرحها قضية الحقيقة. وهو الإشكال المرتبط بمعايير الحقيقة، والذي يمكن صياغته على الشكل التالي: ما معيار الحقيقة؟  هل معيار الحقيقة هو التطابق مع الواقع أم التطابق مع الفكر؟ أم أن معيار الحقيقة يتجاوز ذلك إلى ما هو مرتبط بحياة والإنسان وبما هو نفعي؟

 

الموقف الأول: البداهة كمعيار للحقيقة (يمثل هذا الموقف الفيلسوف رونيه ديكارت)

تعريف الفيلسوف: رونيه ديكارت (1596-1650) فيلسوف فرنسي، يلقب بأب الفلسفة الحديثة، وهو واحد من رواد المذهب العقلاني، من مؤلفاته: “مقال في المنهج”، “تأملات ميتافزيقية”،
يقول ديكارت: لأن جميع الأشياء التي نتصورها تصورا واضحا ومتميزا أشياء حقيقية كلها، وحقيقتها مكفولة بوجود الله، لأنه موجود كامل، ولأن جميع ما فينا صادر عنه، وينتج من هذا أن أفكارنا وتصوراتنا المتعلقة بكل ما هو واضح ومتميز ، لا يمكن إلا أن تكون حقيقية، لأنها أشياء واقعية وصادرة عن الله“.
يعتبر الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت من أبرز رواد المذهب العقلاني في المرحلة الحديثة. وقد أكد على أهمية العقل ودوره المحوري في تحصيل المعرفة. وفيما يتعلق بمعيار الحقيقة فديكارت ، يؤكد على كون معيار البداهة هو معيار الحقيقة، وأن كل ما هو بديهي يعتبر حقيقة لا غبار عليها ولا جدال فيها.  ومما يقدمه ديكارت كنموذج للحقائق البديهية التي تفرض نفسها على جميع العقول، وهو حقيقة التفكير, حيث يقول “أنا أشك-أنل أفكر، وحتى لو شككت في كوني أشك فأنا أفكر، أنا أفكر إذن أنا موجود، فتفكيري إذن دليل وجودي، هذه حقيقة بديهية واضحة لا لبس فيها ولا غموض. لكن كيف نتيقن من أن فكرة ما هي فكرة بديهية؟ هنا يؤكد ديكارت على ضرورة الشك، باعتباره الطريق المنهجي لبلوغ الحقائق. ولن يصمد أمام الشك إلا ما هو بديهي ومتميز.
إذن، فالبادهة العقلية هي المعيار الأكثر اكتمالا ويقينا، والذي يمكن الإطمئنان إليه للتميز بي فكرة صحيحة وأخرى خاطئة، ومن ثمة تكون الحقيقة عند ديكارت من طبيعة عقلية خالصة، ولا حاجة إلى العودة إلى الواقع التجريبي الحسي.

الموقف الثاني: الواقع كمعيار للحقيقة (دافيد هيوم نموذجا)

تعريف الفيلسوف: دافيد هيوم (1711-1776م) فيلسوف إنجليزي وأحد رواد المذهب تجريبي من مؤلفاته “رسالة في الطبيعة الإنسانية“.
 موقف الفيلسوف: في كتابه “رسالة في الطبيعة الإنسانية” يتطرق الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم إلى معيارين، نتحقق من خلالهما من صدق موضوعات العقل الإنساني . ويقسم تلك الموضوعات إلى نوعين:
النوع الأول: علاقات الأفكار فيما بينها، ويشمل هذا النوع علوم الهندسة والجبر والحساب، أي الرياضيات. وهذا النوع من الموضوعات لا يتم إثبات صدقه عبر الواقع، وإنما عبر العقل، عن طريق الحدس والبرهان والبداهة. فمثلا كون وتر المثلث يساوي تربيع الضلعين الآخرين، يتم إثبات صدقه عقليا ومنطقيا، وليس استناد الى العالم الخارجي.
النوع الثاني: علاقة الأفكار بالواقع، ويشمل هذا النوع موضوعات العالم الخارجي، كالقضايا الفيزيائية المادية. وهذا النوع لا يتم إثبات صدقه عبر العقل والبداهة، وإنما عبر الواقع، عن طريق التجربة والعودة إلى الواقع. فقولنا أن الشمس لن تشرق غدا، لن يتم التحقق منه عبر محاولة تأكيد عدم تناقضه أو حتى تناقضه عبر اعتماد البرهان، لأن تأكيد ذلك القول يتم عبر الواقع

الموقف الثالث: السلطة كمحدد لمعيار الحقيقة (موقف ميشيل فوكو)

تعريف الفيلسوف: ميشيل فوكو (1926-1984م) فيلسوف فرنسي معاصر، من مؤلفاته: “أركيولوجيا المعرفة”،”الكلمات والأشياء”،”تاريخ الجنون“.
موقف الفيلسوف: في تصور آخر، مختلف عما سلف ذكره،  يتجاوز الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ثنائية العقل والواقع في بناء الحقيقة، ليربطها بالمجال السياسي الإجتماعي. فحسب فوكو، كل مجتمع له نظامه الخاص المتعلق بالحقيقة، وسياسته العامة حول الحقيقة، حيث أن لكل مجتمع الآليات والهيئات التي تمكنه من التمييز بين المنطوقات الصحيحة و والمنطواقات الخاطئة، وكذلك الطريقة التي نتبين بها هاته من تلك، وايضا الإجراءات المشار إليها من أجل التوصل إلى الحقيقة ، وكذا مكانة أولئك الذين توكل إليهم مهمة تحديد ما يمكن اعتباره حقيقيا.
ويرى فوكو أن الإقتصاد السياسي للحقيقة يتميز بخمس سمات وهي:
  • الحقيقة متمركزة في الخطاب العلمي وعلى المؤسسات التي تنتجه
  • خضوعها لنوع من التحريض الإقتصادي والسياسي
  • الحقيقة موضوع نشر واستهلاك
  • الحقيقة يتم إنتاجها ونقلها تحت المراقبة المهيمنة لبعض الأجهزة الساسية أو الإقتصادية الكبرى.
  • الحقيقة مَدارُ كل نقاش سياسي وكل صراع اجتماعي.

 

 إذن فمعيار الحقيقة حسب فوكو تتحكم فيه السلطة المهيمنة داخل المجتمع، والتي تحدد ما هو حقيقي وما هو ليس بحقيقي.

المحور الثالث: الحقيقة بوصفها قيمة

تأطير إشكالي:

إذا كانت القيمة هي كل ما يرغب فيه الإنسان ويفضله، ويتخذه مثلا أعلى يسعى نحوه عن قصد أو عن غير قصد، سواء على المستوى الفكري النظري، أو الممارسة العملية، أو على مستوى السلوك الأخلاقي، فمن الذي يمنح الحقيقة قيمة ويجعلها شيئا مرغوبا فيه من طرف الجميع ؟ هل لكونها مطلوبة لذاتها  أم لكونها وسيلة لتحقيق غايات عملية أي ما يخدم الحياة الإنسانية؟ بمعنى آخر، كيف تتحدد الحقيقة بالنظر إليها كقيمة ؟ هل تتحقق بما هو أخلاقي أم بما هو عملي؟

الموقف الأول: قيمة الحقيقة في ذاته (إيمانويل كانط)

تعريف الفيلسوف: إيمانويل كانط (1724-1804) فيلسوف ألماني، رائد الفلسفة النقدية، اشتهر بالثلاثية النقدية: “نقد العقل العملي”، “نقد العقل الخالص”، ” نقد ملكة الحكم“.
تأطير الموقف: يتأطر موقف كانط ضمن الكتابات الفلسفية الأخلاقية في القرن الثامن عشر والتي حاولت تأسيس قاعدة للسلوك الإنساني عمادها الإرادة الخيرة، والواجب الأخلاقي
موقف الفيلسوف:  اعتبر كانط أن الحقيقة كقيمة هي غاية في ذاتها، وهذه الغاية  تكمن في قول الصدق لذاته لا لأغراض عملية نفعية، لان قول الصدق هو واجب أخلاقي، أو كما يقول كانط: “قول الحقيقة واجب أخلاقي”. وفي محل آخر  يقول: “إن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات”. ويقدم كانط مثالا ليستدل على أنه لا وجود لحالات استثنائية يجوز فيها الكذب، مثال شخص يكذب على مجرمين سألاه عما ذا كان صديقه الذي يتعقبونه مختبئا في منزله، فإذا كذب يكون قد ارتكب جرما في حق الإنسانية، وبهذا يتحمل مسؤولية فعله الإجرامي، يقول كانط لنفترض أن هذا الصديق تسلل خلسة ودون علمك وهرب إلى الخارج، ولم تحصل الجريمة، لكن بالصدفة صادفه المجرمون في الشارع وقتلوه في هذه الحالة تكون قد ساهمت بشكل غير مباشر في موته، وتصبح متهما أنت أيضا.
خلاصة قول كانط حول الحقيقة كقيمة أخلاقية، أن من أوجب واجبات الإنسان، أن يتحلى بالصدق في تصريحاته وأقواله  التي لا مناص له من الإدلاء بها، وإن أضر صدقه به هو أو بغيره، وبالتالي تكون قيمة الحقيقة في ذاتها، لا في تحقيق غايات خارجية من ورائها.
قيمة الموقف: يتأسس موقف كانط على اساس أخلاقي، ما يمنحه قيمة أخلاقية، ولا يمكن إلا التأكيد على ضرورة الحقيقة كواجب من الواجبات الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها المرء. كما أن الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة يجعلها تتنزه عن كل منفعة ومصلحة  ذاتية قد تجعلها مجرد وسيلة لا أكثر.
سؤال (نقد وانفتاح): لكن ألا يمكن القول بأن تصور كانط للحقيقة يعتبر تصورا مثاليا متعاليا عن الواقع؟ ألا يمكن القول بأن الحقيقة يمكن أن تجد قيمتها من حيث المنفعة التي تحققها، وبالتالي تكون الحقيقة مجرد وسيلة؟

الموقف الثاني: قيمة الحقيقة في المنفعة التي تقدمها

1 – موقف وليام جيمس

تعريف الفيلسوف: وليام جيمس (1842-1910) فيلسوف أمريكي معاصر: من مؤلفاته البراغماتية La Pragmatisme.
تأطير الموقف: يدخل موقف وليام جيمس ضمن موقف الفلسفة البراغماتية التي تربط الحقيقة بحاجات الفرد البشري، وبالنتائج المترتبة عنها:
موقف وليام جيمس: يؤكد وليام جميس الفيلسوف الأمريكي، في كتابه البراغماتية La pragmatisme ، على أن الحقيقة لا تكتسي قيمة إلا إذا حققت منفعة سواء على المستوى الفكري أو العملي، فهي إذن مجرد وسيلة  تتحقق من ورائها أغراض عملية وليست غاية في ذاتها، ذلك أن امتلاك الإنسان لأفكار صحيحة، يعنى امتلاكه لأدوات ثمينة تسمح له بالقيام بأعمال ذات مردودية وإنتاج خصب، فوجوب اكتساب الحقائق إذن، يستمد مبرره من النتائج الممتازة التي يجنيها الإنسان. بهذا القول تصبح الحقيقة كواجب أخلاقي ينشد لذاته  هو مجرد تصور لفظي فارغ من كل معنى، بينما تتيح التجربة للصدق فرصة التمتع بما في الواقع من حيوية وثراء.

2 – موقف فريديريك نيتشه

تعريف الفيلسوف: فريدريك نيتشه (1844-1900) فيلسوف ألماني، من فلاسفة القرن التاسع عشر، عرف بنقده لمجموعة من المرتكزات الفلسفية كالعقل والحقيقة. من مؤلفاته: “العلم المرح”، “جينالوجيا المعرفة“…
تأطير الموقف: يدخل موقف نيتشه ضمن المواقف التي انتقدت مفهوم الحقيقة، والتي قاربت مفهوم الحقيقة في ارتباطه برغبات الإنسان.
موقف فريديرك نيتشه: نفس التصور يؤكده الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، حيث ذهب إلى ربط الحقيقة بالعالم الأرض، وبحاجيات الإنسان الحيوية، ورفض كل تصور فلسفي يتعالى بالحقيقة عن مجالها الطبيعي والإنساني، لأن الحقيقة في نظره، ما هي في واقع الأمر إلا إضفاء صورة الإنسان ورغباته على الأشياء، أي طبع الصور الإنسانية على العالم الخارجي، بحيث يصير العالم برمته مجالا مكبرا لغايات الإنسان وأمانيه، فجوهر الحقيقة ليس في كون شيء من الأشياء حقا، وإنما أن يعتقد الإنسان أنه حق. فالنفع إذن، هو المعيار الفاصل بين كون الأشياء حقا أو غير حق، والنفع هو الحياة، لذا لا يمكن تصور حقيقة خارج الحياة لأن ذلك يعتبر وهما.
قيمة الموقفين: إن ما يمنح موقف كل من وليام جيمس ونيتشه أهميته، أو لنقل ما يمنح الأطروحة القائلة بتجلي قيمة الحقيقة في المنفعة التي تقدمها قيمتها، هو ربط الحقيقة بالمجال الحياتي للإنسان، وتسليط الضوء عليها من زاوية نفعيتها.
حدود الموقفين: لعل أبرز ما يمكن أن ينتقد فيه التصور البراغماتي  للحقيقة هو كونه تصورا يضرب في إطلاقية الحقيقة، ويجعلها مرتبطة بالمنفعة والمصلحة التي تقدمها، وبالتالي تصبح الحقيقة نسبية.

خلاصة تركيبية

لا يمكن أن نختم مقاربتنا لإشكال الحقيقة كقيمة، إلا بالتأكيد على أهمية الحقيقة كقيمة ابستمولوجيا وكقيمة أخلاقية أيضا، سواء ارتبطت بالمجال المعرفي الصرف، أو ارتبطت بالمجال الإجتماعي أو السياسي أو الثقافي. إلا أن مقاربة أساس قيمة الحقيقة يختلف من تصور لآخر، ومن فيلسوف لآخر، ويمكن أن نلخص الإختلاف بالقول بأن هناك من تطرق إلى الحقيقة انطلاقا مما يجب أن يكون (كانط ) وجعلها غاية في ذاته لا ترتبط بأي منفعة أو مصلحة ذاتية، وهنا من تطرق إليها انطلاقا مما هو كائن (وليام جيمس ونيتشه) وجعلها ترتبط بالمجال الطبيعي.

خلاصة تركيبية لمفهوم الحقيقة

 

لقد ظلت الحقيقة مسعى كل تفكير، ولعل أكبر دليل على ذلك هو وجود هذا الكم الهائل من المعارف والأفكار والمعتقدات، فلم يكن ليوجد لولا بحث الإنسان عن حقائق الطبيعة، ولم يكن التاريخ موجودها لولا هوس الإنسان باستحضار حقيقة الماضي، واستدراك ما لم يتمكن من معايشته،.. كل هذا يجعل التفكير الفلسفي يسعى إلى مقاربة مفهوم الحقيقة، وتعيينها كقضية يلزم عالجتها ومقاربتها. فحاول الفلاسفة  والإبستمولوجين كشف ماهية الحقيقة، فذهب البعض إلى اعتبارها تحيل إلى المطابقة بين العقل وذاته أو بين العقل والواقع. كما ذهب البعض إلى تعريفها من خلال المجال الطبيعي. ولم يقف التفكير الفلسفي عند حدود البحث في مدلول وماهية الحقيقة، بل حول مقاربتها من خلال إشكالات فلسفية، منها إشكال الحقيقة والراي وإشكال معايير الحقيقة وإشكال الحقيقة كقيمة. أما بخصوص الإشكال الأول فبحث عما إذا كان يمكن اعتماد الرأي رغم ما يميزه في بلوغ وبناء الحقيقة. أما الإشكال الثاني فبحث عن المعيار الذي يمكن أن نميز به بين الحقيقي وغير الحقيقي، وأيضا إن كانت الحقيقة نسبية أم مطلقة. وبخصوص الإشكال الثالث فبحث عن الحقيقة كقيمة.

إغلاق