الإنسانوية تحت محكّ الهجمات الفيروسية – أسامة الدرقاوي

أسامة الدرقاوي : باحث في الفلسفة

غاية الأشياء ومبدأها سرّ مغلق، بالنسبة للإنسان”  -باسكال

” الماضي يحدث معنا ويأتينا من المستقبل ”  -هايدقر

إن المتأمل بما يعصف بالعالم اليوم، في ظل الأزمة الفيروسية؛ لأرى بشكل واضح على أن الجنس البشري لازال لحدّ الآن غير مستشرف لما قد يصدر عن الطبيعة ولا يتوقع نتائجها.
يقال أنثروبولوجيا أن الإنسان خدع الطبيعة حينما وظف يده لكي يطوّعها ، لكن هذا الخداع لم يلبث يسقط وتبقى فقط المفردة عالقة ؛ انما هو القول الإنسان إعتمد على المناولة لكي يساير حياة الطبيعة المتغير نواميسها .

لكن هذه المناولة وبالرغم من تراكماتها المعرفية التي طورت من مدارك الإنسان، لازال على ما يبدو قاصراً على إقامة وشيجة ايكو-طبيعية مع هذه الأخيرة .
وعلى هذا المقتضى نستحضر العبارة السبينوزية، التي قوّضت النرجسية الانسانوية تحت إوالية حكم كما يلي :

” لا تسير الطبيعة وفقا للعقل الانساني أي أنها لا ترعى المصلحة الخاصة للفرد ،وفي نفس الوقت ليس في الطبيعة خير أو شر لأن الخير والشر نسبيان .ولا يعني ذلك اماتة الطبيعة أو معارضتها ﻷن الانسان ليس مملكة داخل مملكة فالعقل نفسه شيء طبيعي والمجتمع أيضا شيء طبيعي .”¹

وعلى هذا القول تتأسس إيتيقا المحايثة السبينوزية، كمحاولة كما قلنا آنفا لفضح أي تمركز إنسانوي وجعل الكل في مملكة واحدة تخضع للتأثير والتأثر.
وغير بعيد عن هذه الفكرة ، تأتي عبارة سبينوزا كفكرة راجعة وتنبجس هاهنا لتتحدث عن “الجسم” الانساني في خضم هذا التأتير والتأثر “اننا لا نعرف ما يستطيعه جسم ما “²
والبيّن أن الجسم الانسانوي، مع هذه ” الجائحة الميكروسكوبية ” لم يستطع أن يضع حوائط الصدّ لمواجهة هذا الخطر العالمي.

إنّ استطرادنا على القول السبينوزي، وعلاقته مع هذا الطارئ العالمي نابع من رأي كون آلية المحايثة قائمة أول الأمر على توجيه (صحي)للجسم ،لكي نؤتث لعالم “فن العيش”
بدأً بنظام غذائنا ونمط تفكيرنا وأيضا بالسعي الحتيث على كشف الأثار الغامضة التي تحصل على أجسامنا .
فلما كان أن إستغرق العالم في التماهي مع نمط سوق الاستهلاك ، أبان الحال عن عطب عضوي كبير ؛ حتى لنجد الآن سقوط يقينيات الوعي الحسّية “ما يزال هناك أكثر من تأملاني ساذج يعتقد أن ثمة يقينيات بلا توسط وعلى سبيل المثال (أنا أفكر) أو على حساب الخرافة التي آمن بها شبنهاور ( أنا أريد ).³

إنّ ” أنا أفكر ” الحسّ إن ربطناها بالنموذج الاستهلاكي المسوّق تعطي تلقائيا “وجود” تحت مظلة العولمة ، هذا الوجود الذي يجد نفسه عاجزا الآن .
وعليه ،هل سنبقى أسرى براديغم استهلاكي “جشع” أم آن الأوان لننظر في ( المرآة ) ، ليست مرآة نرسيس بل مرآة عاكسة لنظرة (ميدوسية)⁴ لكي تتحجّر وثوقيتنا الحسيّة وأفكارنا التي ترقد في بركة ماء آسنة ،ونعيد ترتيب/نا وفق حطامنا المتحجّر .

فلا ضير هاهنا الأوان، إن حوّرنا الإستهلال الكانطي وأوّلناه على هذا الوضع الذي نعيشه تحت زفرة ( الحاجة الى العقل في حدود ايكو- أرض ) ، كإعلان عن إعادة تفكير في أسّ وجودنا ، وليضحي الانسان تحت مذبح العقلانية ، واع بقصوره في حركة الطبيعة المتجددة.

نافل القول ، أننا الأوان في حاجة إلى براديغم سوّي على حد تعبير طوماس كون” العمل بموجب نموذج إرشادي لايمكن أن يجري بأيّ وسيلة أخرى”⁵
أي إن لم تواكب البشرية ما يعصف بسبل بقائها ، أو تعمل على التخلي عن النموذج الإرشادي -كما بيّن الحال- فذلك يعني التوقف عن ممارسة العلم الذي يحدده النموذج .

____________________________________
¹باروخ سبينوزا علم الأخلاق ترجمة جلال الدين سعيد ص 35 ، المنظة العربية للترجمة،2009
²باروخ سبينوزا علم الأخلاق ، مصدر سابق ص20
³ما وراء الخير والشر ، ترجمة جزيلا فالور حجار، ص 37 ، غروب في ، 199⁴ميدوسا في الاسطورة الاغريقية هي بنت نزلت عليها اللعنة اذ مارست الجنس مع بوسيدون فغضبت أثينا عليها وحولت شعر رأسها إلى ثعابين وإن نظر إليها أحد فورا يتحجّر
⁵توماس كون بنية التوراث العلمية،ص65 سلسلة عالم المعرفة ،1992

 

إغلاق